بتولا، ذات الواحد والأربعين عاما والأم لثمانية أبناء، سيدة مفعمة بالقوة، تتحدث بسرعة، تحدثت بكل ألم عما عاشته وشهدته من فظائع ارتكبها مقاتلو بوكو حرام قبل أن تفر بجلدها، وهي ترضع طفلها البالغ من العمر أسبوعين والذي كانت حبلى به عندما اختطفتها الجماعة المتشددة. كانت شهادة بتولا ضمن شهادات أكثر من ستين فتاة وسيدة تعرضن لنفس المصير على أيدي مقاتلي بوكو حرام ونجحن في الفرار من معسكر رقيق للجماعة الإرهابية، أجرى معهن المؤلف الألماني فولفغانغ باور في يوليو 2015 ويناير 2016 حوارات ليضمن في ما بعد شهاداتهن في كتابه “المختطفات.. شهادات من فتيات بوكو حرام” الذي ترجم إلى العربية من قبل علا عادل. يعتبر الكتاب وثيقة مهمّة ومناشدة حقيقية من أجل سياسات لجوء أكثر إنسانية. وإلى جانب شهادات النساء اللائي كن ضحايا لبوكو حرام تضمن الكتاب صورهن التي أخذت بعدسة المصور الفوتوغرافي أندي سبيرا. التقى فولفغانغ ببتولا وقد كانت بصحبة ابنتها “رابي” البالغة ثلاثة عشر عاما. كان زوج بتولا يعمل بالزراعة ويشتغل لديه العديد من العمال حتى وقع هجوم بوكو حرام ومازال مفقودا حتى اليوم، شأنه في ذلك تماما شأن ابنتها الكبرى، في حين لقي سبعة عشر فردا من أفراد أسرتها حتفهم مقتولين. عاشت بتولا تسعة أشهر في معسكر “البوابة 1” التابع لجماعة بوكو حرام؛ لا تفصلها عن شقيقتها سعدية سوى أشجار قليلة، كما ظلت ابنتها رابي قيد الاعتقال في معسكر “البوابة 2”. يقول فولفغانغ “كان الكثير من النساء اللاتي تحدثنا إليهن قد فررن قبل أيام قليلة من غابة سامبيسا”، مؤكدا أن شهاداتهن توثق تلك الجرائم التي لا يصدقها عقل، وتمنحنا نظرة عن الحياة الداخلية لهذا التنظيم؛ “فالأمر هنا يتعلق بجماعة إرهابية قتلت في السنوات الأخيرة أكبر عدد من البشر، ربما أكثر ممن قتلهم تنظيم الدولة الإسلامية”. شهادات النساء التي وثقها فولفغانغ تبدأ بسرد حياتهن قبل اختطافهن من قبل بوكو حرام، ثم تتشعب إلى شهادات بناتهن القاصرات وأطفالهن وأزواجهن. تتذكر بتولا تفاصيل أول هجوم تعرضت له أسرتها فتقول “في صباح اليوم الذي جاء فيه مقاتلو بوكو حرام، كنا في الطريق إلى حقلنا، سمعنا من خلفنا صوت إطلاق رصاص، قلت لأبنائي إن عليهم أن يختبئوا”. وتتابع “قررت العودة إلى القرية لكي أحضر باقي أفراد العائلة، شعرت بخوف شديد، لكنني لم أستطع أن أترك أبنائي وأمضي! رأيت المقاتلين بالفعل في الطريق إلى القرية، كانوا يرتدون زيا عسكريا مموها ويضعون عمامات على رؤوسهم، أطلقوا النيران على جميع الرجال حتى العزل، رأيت كيف أطلقوا النيران على الرجال الذين حاولوا أن يهربوا بالدراجات البخارية، رأيت في الطريق 11 قتيلا عندما كنت أحضر الأبناء من المنزل وأسرع معهم إلى الأحراش”.انطلقت طائرة مقاتلة فوق رؤس بتولا وأبنائها ثم أطلقت نيران مدافعها على القرية بشكل عشوائي دون أن يكون لها هدف معين، ما أسفر عن وفاة تسعة أشخاص في منزل ابنة بتولا الكبرى، والذي كان فيه ثلاثة من أبناء زوجها من زوجته الأولى ووالدته، بالإضافة إلى خمسة أقارب آخرين؛ امرأتين وثلاثة أطفال، كانوا قد نجوا بأنفسهم لتوهم من قرية أخرى متجهين إلى “جوبلا”. عادت بتولا مسرعة إلى القرية لتطمئن على ابنتها التي وجدتها خائرة القوى لكنها لا تزال حية. تروي بتولا “بكينا واحتضنا بعضنا، كنا نقف أمام منزلها المدمر، رأيت ساقا مقطوعة، وسط الأنقاض، كان هناك الكثير من الجثث في الشوارع، أغلبهم من ضحايا بوكو حرام”. شجاعة بتولا وجرأتها في العودة إلى القرية شاركتها فيهما أربع نساء أخريات قررن عند رؤية الجثث تنهشها الكلاب دفنها جميعا، فتقول بتولا “رجوت خالتي أن تترقب ظهور المقاتلين لكي تحذرنا في الوقت المناسب، حفرنا حفرة لكل جثمان، آلمتني ذراعاي جدا من كثرة الحفر”. تمكنت بتولا ورفيقاتها من دفن ست عشرة جثة بينها جثة جندي قبل أن يباغتهن المقاتلون مرة أخرى، والذين لم ترهم خالتها عند اقترابهم بسبب كبر سنها. جاء المقاتلون على متن دراجات بخارية وسيرا على الأقدام. تقول بتولا “دفعونا وضربونا، قيدوا أيادينا خلف ظهورنا بأحبال بلاستيكية وجاؤوا بنا إلى منزل تاجر الخمر”. في الداخل، استعمل عناصر بوكو حرام السياط لضرب النساء، تتذكر بتولا التي تلقت ثلاثين جلدة ذلك بكل ألم فتقول “لن أنسى هذا الرقم أبدا، لقد تفتق ظهري بأكمله من الجراح وبلل الدم ملابسي بالكامل، إن ظهري يؤلمني حتى اليوم بسبب هذه الضربات”. عقد المقاتلون عصابات حول رؤوس الأسيرات كي لا يرين أي شيء وبقين على تلك الحالة طول الليل. توفيت “تشام” خالة بتولا مختنقة لأن رأسها كان ملفوفا بعصابة سميكة أكثر مما ينبغي؛ فلم تستطع التنفس بشكل جيد. تقول بتولا “سمعنا طيلة الليل صوت تنفسها، ينبعث على نحو متحشرج”. وتتابع “عندما دخل المقاتلون في الصباح التالي، لاحظوا أن الخالة ماتت فألقوا بجثمانها في بئر تقع أمام المنزل مباشرة، سمعت صوت الجلبة الناتج عن إلقاء جثمانها في الماء، لم أستطع في هذه اللحظة أن أبكي، لم أستطع أن أفكر”. تواصلت المعارك وبشكل مفاجئ قرابة الظهيرة واقتحم الجيش مرة أخرى القرية، فلاذ القائمون على حراسة الأسيرات بالفرار. دخل القرية رتل من الدبابات كان صوتها قد سمع من مسافة بعيدة، ولا تزال بتولا تتذكر صوت طقطقة جنازيرها المخيف وصوت الطلقات. نجحت إحدى الأسيرات في التحرر من قيودها ومن ثم نزعت قيود البقية، ركضن في القرية نحو الجبال، رأين الجنود قادمين على متن خمس دبابات، وكانت لدى مقاتلي بوكو حرام كذلك دبابات، أطلقت إحدى دبابات بوكو حرام النيران فأسقطت إحدى دبابات الجيش في الماء وإثر ذلك أطبق المقاتلون الحصار على الجنود. انضم الكثير من الجنود للنساء الفارات إلى الجبال وكانوا يشعرون بخوف كبير لدرجة أنهم تنكروا في ثياب نساء. اقتاد المقاتلون النساء، وكن قرابة أربعين امرأة، وعددا من الأطفال نحو قرية “جوبلا” التي تبعد عن الجبال حوالي عشرين كيلو مترا. وكشف تقرير للأمم المتحدة نشر الاثنين عن تجنيد بوكو حرام لـ8 آلاف طفل على الأقل منذ بدء تمرده في 2009 في منطقة “بحيرة تشاد” وسط أفريقيا. وقال مسؤول المشاريع القومية في مكتب الجريمة والمخدرات التابع للأمم المتحدة، سيلفستر توندى أتيري، إن “تجنيد الأطفال واستغلالهم تترتب عليه آثار طويلة المدى على حياتهم” بسبب الآثار طويلة المدى للصدمة العنيفة التي عاشوها. في “جوبلا” رأت بتولا جارها “بابالابا” في محطة الباصات الكبيرة. تقول بتولا “لقد أصبح الآن زعيم مقاتلي بوكو حرام في المنطقة”. وتضيف “لقد رآني، لكنه تظاهر بأنه لا يعرفني، كان هناك 16 رجلا من قريتنا يركعون أمامه في الشارع، كانوا راكعين في صف طويل”. أعلن بابالابا إلى الذين وقعوا في الأسر “لقد جئنا بكم إلى هنا، لكي تروا كيف نقيم حدود الله”. ووفق بتولا، كان بابالابا يعمل في تجارة جلود البقر والماعز وهو في الثلاثين من عمره، وتقول إنه “كان متزوجا ولديه ثلاثة أبناء، لم يسبق له قط أن اهتم بأسرته الفقيرة وقبل انضمامه لبوكو حرام كان نكرة”، بعد ذلك اختطف بابالابا ثلاث فتيات من البلدة وتزوج بهن وأخذهن مع أسرته إلى الغابة. ضرب مقاتلو بوكو حرام أعناق الرجال بالسيوف، بعد أن يضغطوا عليهم نحو الأسفل. تسرد بتولا تفاصيل ما رأته بأم عينيها عندما كان أحد المقاتلين يمسك بالرجال الأسرى ويقطع آخر رؤوسهم. تقول “استمر الأمر وقتا طويلا جدا، لا أعرف كم. كانوا بعد ذلك يرفعون رؤوس المقتولين إلى أعلى بحيث نستطيع أن نراها جميعا، ويلقون بها في الشارع”. وواصل المقاتلون نفس الأمر مع بقية الرجال الذين ظلوا مختبئين في المنازل وحاولوا أن يلوذوا بالفرار من القرية قبل أن يقعوا في الأسر. وتواصل بتولا روايتها “أخذ الدم يتدفق من جذوع الرجال، كانت الأجساد ترتجف عندما يخرج الدم بأكمله من الجسد، ثم يتوقف عن الارتجاف، وقبل أن يقطع مقاتلو بوكو حرام رؤوس الرجال، عصبوا أعينهم”. وتضيف “كنت أعرفهم جميعا، كان موسى زوج ابنتي الكبرى واحدا منهم، كان يركع أمامنا أيضا هارونا وعبدالله وبابا وماي وجورو، يمكنني أن أخبرك أيضا بأسماء الآخرين”. بدأ تمرد بوكو حرام قبل 10 سنوات بهدف إقامة دولة إسلامية متشددة في شمال شرق نيجيريا، وامتد نشاط التنظيم منذ ذلك الوقت إلى النيجر وتشاد وكاميرون المجاورة. قتلوهم جميعا ما عدا رجلا واحد اسمه إيجاكرايو، الذي كان في بادئ الأمر يريد الفرار مع الرجال لكنه انقلب عليهم بعد ذلك وتعاون مع عناصر بوكو حرام وأطلعهم على الدرب المؤدية لقرية “واكارا” النائية الصغيرة، التي لا يسكنها سوى المسيحيون. عنف جنسيفي ذلك المساء نقل بابالابا ورجاله الفتيات اليافعات أولا بعيدا على متن سيارات نقل، ثم عادت نفس السيارات في الصباح التالي لتنقل الأسرى الأكبر سنا. تقول بتولا “نقلونى بصحبة أبي. عرفنا في غضون ذلك أن المطاف سينتهي بنا إلى غابة سامبيسا”. ونددت منظمات حقوقية محلية ودولية بالاعتداءات الجنسية التي تطال النساء في نيجيريا خاصة الفتيات الصغيرات والتي ترتكبها جماعة بوكو حرام. وذكر تقرير للأمم المتحدة أنه تم الإبلاغ عن 997 حالة في عام 2017، في حين كان العدد 644 حالة في عام 2016، تتعلق بالاغتصاب والاسترقاق الجنسي والزواج القسري التي تستهدف النساء على أيدى عناصر بوكو حرام في نيجيريا. كما يستخدم التنظيم الإرهابي النساء والأطفال لتنفيذ عمليات انتحارية. وكان مسلحو بوكو حرام قد اختطفوا في 14 أبريل 2014، لدى اقتحامهم لمدرسة شيبوك الداخلية للفتيات، 276 طالبة تتراوح أعمارهن ما بين 12 و17 عاما. ومنذ ذلك الحين هربت أكثر من 100 فتاة أو تم إطلاق سراحهن في إطار صفقات تبادل أسرى أو أنقذهن الجيش. ولا تنتهي معاناة الضحايا بمجرد تمكنهن من الهرب بل تزداد الأمور تعقيدا بالنسبة لهن، إذ يواجهن الرفض الأسري والمجتمعي ونظرات الريبة والوصم. وتتخذ بوكو حرام مقرها الرئيسي في مستنقعات غابة “سامبيسا” والتي تساعدها على الاختباء. ويقول فولفغانغ إنها “الغابة التي باتت تسبب الذعر لدولة حديثة”. ويصفها بأنها “معتمة ويكاد يكون التغول فيها غير ممكن، يظن الكثير من أهل نيجيريا أن من يطأها لن يجد طريقه للخروج منها أبدا؛ فهم يقولون إن هناك لعنة من العصور القديمة قد حلّت عليها؛ فالغابة قديمة لدرجة أن أحدا لا يستطيع أن يؤكد معنى اسمها الأصلي”. وغابة “سامبيسا” هي الأخيرة من نوعها؛ إذ لم يتبق سواها من بين كل الغابات الكبرى في شمال شرقي نيجيريا، وأشجار هذه الغابة لا يتجاوز ارتفاعها بضعة أمتار قليلة، وهي أشجار معوجة ومتداخلة في بعضها، أدغالها مليئة بالأشواك الحادة مثل المخالب، وتيجان أشجارها تعوق التطلع للسماء، ونادرا ما تنجح الشمس في النفاذ إلى داخلها وصولا للأرض، كما أن تربتها ليست ثابتة، والأنهار الضخمة التي تنبع من جبال “ماندرا” لا تجري لتصب في البحر، بل تنتهي في مستنقعاتها.ويقول فولفغانغ “يوجد في هذه الغابة الكثير من الحيوانات المتوحشة، إلا أن الإنسان هو أخطر قاطنيها وتحديدا الرجل” في إشارة إلى الفظاعات التي ترتكب بحق النساء كالاغتصاب وغيره من الانتهاكات الجنسية التي تستهدفهن في تلك المنطقة. ورغم أن جماعة بوكو حرام خطيرة إلى درجة كبيرة بالنظر إلى نشاطها والهجمات التي نفذتها، إلا أنه لا يعرف عنها سوى القليل؛ فكيفية إدارتها وكذلك ماهية أهدافها طويلة المدى ومن الذي يمولها ولماذا تتخذ تلك القرارات كلها أمور ليست واضحة. وبحسب فولفغانغ، لا تقدم شهادات النساء المختطفات أجوبة عن هذه الأسئلة، لكنها تساعد على الاقتراب من الإجابة؛ فأقوالهن ليست فقط مصادر معلومات عن بوكو حرام بل هي أكثر من ذلك. ويقول “إنها شهادات لذواتهن؛ لأنها تصحبنا إلى حياتهن التي ظلت غريبة علينا رغم انتشار الإنترنت والعولمة، كما تقودنا أقوالهن إلى حواري القرى التي يقطنها والتي لا نستطيع أن ننطق أسماءها بطريقة صحيحة، والتي لا تظهر إلا على القليل من الخرائط”. ويؤكد فولفغانغ “كم هي مؤلمة أقوال هؤلاء النساء؛ لأنها من بين أسباب أخرى توضح لنا إلى أي مدى نظرتنا مازالت محدودة، وإلى أي مدى يعد نموذج إدراكنا ضيقا، كم هو ضئيل فهمنا لهذا العالم، وهذا الزمن الذي نعتبره زمننا”. وتشير العديد من التقارير إلى أن تمرد بوكو حرام تسبب بمقتل 27 ألفا في نيجيريا، فيما لا يزال نحو مليوني شخص غير قادرين على العودة إلى منازلهم. مجازر علنية
مشاركة :