نقرات بسيطة على شاشة جوالك تكفي لجعلك أمام تغريدة تافهة أو مقطع فيديو كذلك مرسل إليك بالواتساب، لم تسع للوصول إلى أي منها ولم تبحث عنها، كفتك التقنية ذلك وأتت به أمامك وجها لوجه مع هذه الحماقات. عنترة لكي يصبح مشهورا كان لزاما عليه أن يكون فارسا، وأن يحب عبلة، وأن يكتب شعرا خالدا، مانديلا كان لا بد أن يضحي ب27 سنة في السجن ليكون مشهورا كذلك وصاحب رسالة سامية.. أما اليوم فيكفي أن يخرج أحدهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ليتقيأ تغريدات هابطة فكريا وأخلاقيا أو أن يخرج في مقطع فيديو معلنا تحديه العظيم أنه يسطيع أن يشرب قارورة الشطة كاملة بنفس واحد! يكفيه ذلك ليحصد ملايين المتابعين والمعجبين بعدد ما قتله هتلر في حربه ضد الإنسانية! ويبقى السؤال: لماذا سيطر التافهون على حياتنا؟ طبعا في مباراة غير متكافئة من حيث العدد فالغلبة للطرف الأكثر انتشارا على الأرض، وبما أن السفهاء يتميزون بالوفرة في هذا الزمن، فهذا حسب تقديراتي الخاصة يعتبر سببا رئيسا لهذه الهيمنة.. لكن ماذا بعد الهيمنة؟ لا تتساءل بعد اليوم عن سر شهرة هؤلاء ونجاحهم على مواقع الميديا بينما العقلاء والعظماء يحتسون القهوة على قارعة الطريق دون أن يسألهم أحد: كم الساعة؟ فعلى الأرجح كل واحد منهم ينتظر ساعته القريبة بعدما صار غريبا في مجتمع افتراضي لا يعترف إلا بنوع خاص من المؤهلات.. فما هي هذه المؤهلات يا ترى؟ للإجابة على هذا السؤال علينا أن نفهم مجتمعاتنا وأن نفهم طباع من نعايشهم باستمرار، أن نفهم الناس الذين نلتقيهم في الشوارع، أن نفهم الذكور والإناث بمختلف الأعمار ومختلف الشرائح.. إذا فعلنا هذا لن نكون أغبياء لنعيد دائما طرح نفس السؤال الذي يستفزنا كلما رأينا الوقاحة على المنابر تنتج ذهبا، طبعا لن نعود لنسأل: ماذا يقدم هذا ليحظى بكل هذه الجيوش من المتابعين والمعجبين؟ فالجواب في هذه الحالة أوضح من الشمس ولا يحتاج لاجترار مرارة الأسئلة، فالذي يقدمه هي التفاهة التي تغري العامة للالتفاف حولها، فالعامة هي التي تنجب النجوم وهي التي تتابعهم.. مع فرق بسيط بين التابع والمتبوع: فصاحبنا يملك أو صاحبتنا تملك الجرأة لعرض التفاهة في حين هؤلاء العامة لا يملكون نفس الشجاعة، بل ينتشون بجرأة الآخرين حتى لو كانت قبيحة. يبدو واضحا أن هذه المنابر صممت لأصحاب هذا الطرح، بينما الأفذاذ من المفكرين والعظماء الحقيقيين لن تنفعهم أطروحاتهم في استقطاب عشرة متابعين، فالجماهير الغفيرة ذهبت لتستمتع بالأعمال القيمة التي يقدمها هؤلاء من سب وشتم وغباء لا متناهٍ، الجماهير الغفيرة يا عزيزي تقف مبتهلة على عتبات حسابات المسيئين لأنفسهم قبل أن يلحقوا الضرر بالمجتمع .. إلى هنا سافرت الجماهير! لذلك من الصعب أن نتمنى ونتخيل بعذوبة ورقة أن نجد كل هذه الأعداد الوفيرة يحزمون أمتعتهم ليرحلوا لمتابعة الإنتاجات العظيمة.. لذلك نريد وعيا يقلب الواقع، نريد أن نغير نظرتنا لهذه الأسواق الافتراضية التي تعج بالصالح والطالح، لنختار الجميل ونعزف عما سواه، فلعله يأتي يوم نجد ناشري التفاهة على هذه المنابر يهشون الذباب عن بضاعتهم. الجمهور هو الذي يملك مفاتيح اللعبة، هو الذي يمنح وهو الذي يمنع، فهل يمكنه أن يرتقي حتى نتخلص من هذه الظاهرة التي تضر أذواقنا ومجتمعاتنا وأطفالنا؟.
مشاركة :