أوروبا: الاتحاد قوي على رغم الأزمات التي تعصف بدوله «الفقيرة»

  • 4/12/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

بعد سقوط جدار برلين عام 1990، توحدت دول أوروبا الشرقية واجتمعت مع ما سمي دول أوروبا القديمة حول رؤية واحدة، وهي الاندماج الأوروبي منطلقة من اقتناع بأن هذا الوحدة تمثل الضمانة الأكيدة لمسيرة الديموقراطية وتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. الآن وبعد أكثر 25 عاماً على سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، أدركت شعوب هذه المنطقة أن عضويتها في الاتحاد الاوروبي لا توفر لها فرصة النجاة من ارتجاجات واهتزازات الأزمات الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الأوضاع الاجتماعية والتوازنات السياسية كما كانت قد توهمت واعتقدت أنها ستكون محصنة أو على الأقل حليفة لعالم غني يمتلك كل مصادر القوة. دول الاتحاد الأوروبي الجديدة تواجه الآن مشكلات جدية تتجلّى في ما تشهده مجتمعاتها من مظاهر تفكك وانقسامات سياسية وتمردات أيديولوجية وتراجعات اقتصادية تتناسل مع بروز نوع جديد من الاستبداد عنوانه «الديموقراطية الموجهة» التي حاز براءة اختراعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واقتدى به سياسيون في أوروبا وصلوا إلى الحكم على رغم أن سجلهم السياسي والاجتماعي والأخلاقي موضع نقاش ساخن في صحافة بلدانهم مثل فيكتور أوربان في هنغاريا وبونتا في رومانيا وبويكو بوريسوف في بلغاريا وهاشم تاجي في كوسوفو ودجوكانوفيتش في مونتينغرو. وتبدو اللوحة في هذه البلدان «الأعضاء الجدد» كالحة المعالم مع ابتلاع الفساد والزبائنية مؤسساتها التي تداخلت، بل وقعت فريسة جماعات الأوليغارشية والجريمة المنظمة المتحلقة حول الأحزاب الحاكمة لدرجة أنها أخذت تهدد بريق مبادئ أوروبا الأخلاقية بالتبخر. إلا أنه من التجني تجاهل واقع أن عضوية هذه البلدان في الاتحاد الأوروبي أرست معايير جديدة كانت غائبة عن مجتمعات أوروبا الشرقية والوسطى، وفي طليعتها حقوق القوميات والإثنيات العرقية والأقليات الدينية. تعاني غالبية الدول الأوروبية بقسميها القديم والجديد من الركود الاقتصادي، وتشير البيانات الرسمية إلى أن البطالة تنتشر بين الشباب من حاملي الشهادات العليا، بحيث وصل عدد العاطلين من العمل إلى أكثر من 26 مليون شخص، وبدت القيادات البيروقراطية عاجزة نسبياً عن إيجاد حلول جذرية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما أثمر ارتفاعاً في منسوب الهجرة بين صفوف الشباب بحثاً عن عمل ومستقبل في دول بعيدة مثل أستراليا أو السويد، هذا بعد أن كان العرب والأفارقة والآسيويين يحتكرون الفرار من بلدانهم لأسباب اقتصادية واجتماعية باتجاه دول العالم الأكثر تقدماً. فعلى سبيل المثل تقدم 8 آلاف عاطل من دول أوروبية متعددة إلى منتدى «العمل في الخارج» بطلبات عمل إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، ووجد الخبير في شؤون الشركات والأعمال برنار جيرار «أن ثمة أوجه شبه بين حركة انتقال العمال بين الدول الأوروبية الأعضاء اليوم، وبين نظيرتها في الولايات المتحدة في ثلاثينات القرن الماضي» ما يقود برأيه إلى «تبلور سوق عمل أوروبية تضاهي السوق السائدة بين الولايات الفيديرالية الأميركية المختلفة» وهو ما سيحول الاتحاد الأوروبي وفقاً للمحلل جون فيفر إلى «رديف للنموذج النيو – ليبرالي السائد في أميركا». تحديات وبنى ضعيفة تميزت البنية الاجتماعية والسياسية للاتحاد الأوروبي خلال الأعوام المنصرمة بالضعف، وكان العام المنصرم الذروة في هذه الظاهرة مع بروز الفوارق العميقة في العادات ونمط الحياة والمستويات المعيشية بين مجتمعات دول أوروبا الشرقية التي نالت عضوية الاتحاد، ومجتمعات الدول الغربية، ما أدى إلى حدوث حالات تمرد ورفض لبعض القرارات والتشريعات التي تتخذها المفوضية الأوروبية بحجة الدفاع عن السيادة الوطنية. ويلزم الدستور الأوروبي أعضاء الاتحاد بتنفيذ قراراته واتباع قوانينه، ولكن هذه البلدان تشعر بأن التكامل أمر مفروض عليها، وقد أظهرت دراسة أجراها عدد من خبراء الاقتصاد صورة قاتمة للمشروع الأوروبي. توصلت الدراسة بعد تحليل بيانات قدمتها استطلاعات الرأي على مدى أربعة عقود إلى «أن ثلاثة أحداث مهمة هي معاهدة ماستريخت عام 1992، والتوسع نحو أوروبا الشرقية عام 2004، والأزمة المالية الاقتصادية عام 2010، أحدثت أكبر أثر سلبي على آراء الناخبين في الاتحاد الأوروبي»، إذ اعتبرها الأوروبيون قوة دافعة نحو تكامل أكبر لا ينسجم مع أمزجتهم. عندما انطلق الاتحاد عرف باسم «المجموعة الاقتصادية الأوروبية المشتركة»، وبدا ذلك كافياً، إلا أنه برأي المحلل البريطاني في «الإيكونومست» راندل بيكر «لم يكن كافياً». لقد أراد مؤسسو الاتحاد «تشكيل منظومة توقف نزوع الأوروبيين نحو الحروب عبر دحر الولع بالحدود الفاصلة بين دول القارة وبلورة رؤية أوروبية موحدة. ومما لا شك فيه أن هذه الفكرة تحققت على أرض الواقع، والأمر الذي لا يجب نسيانه أن الحروب الوحيدة التي اندلعت في أوروبا نشبت بين دول ليست عضواً فيه، مثل دول البلقان بعد انهيار الفيديرالية اليوغسلافية في تسعينات القرن الماضي، والآن تدور حرب بالوكالة داخل أوكرانيا بين السلطة وجماعات انفصالية في أجزاء البلاد الشرقية يغذيها ويدعمها مالياً ولوجيستياً وتسليحاً الكرملين. والمشكلة التي يتحدث عنها عالم السياسة الفرنسي جان مونيه الذي يعتبر أحد منظري فكرة الاتحاد والعامل لتأسيسه، تكمن في أن نخبة من البيروقراطيين من ذوي التوجه الأوروبي هي من يتولى عملية الاندماج، فيما كان من المفترض أن يأخذ منظرو الفكرة بالاعتبار مخاوف الناخبين لكي يكون الاتحاد محصناً في شكل كاف أمام التحديات والتفتت. مشكلة الديموقراطية الأوروبية يشعر الكثير من الأوروبيين بأن أمر التكامل والاندماج مفروض عليهم، وهذا يعني أن الاتحاد يعاني من مشكلة ديموقراطية. وكان مونيه توقع عام 1976 «أن تشكل الأزمات أوروبا، وستكون نتاج مجموعة من الحلول التي سيتم تبينها لتجاوز تلك الأزمات». ويرى محللون أنه كان من المفترض أن يكون المشروع الأوروبي محصناً من مخاوف الناخبين وغير قابل للإلغاء افتراضياً، وأن تدفعه المشكلات نحو الأمام من خلال اكتشاف الحاجة إلى اتساع نطاق النفوذ السياسي الأوروبي، وكما يقول المحلل مارك بوكانان: «كان الهدف أن يرى الناخبون في النهاية الحكمة من وراء ذلك». وفي هذا السياق تحدث مؤيدو التكامل الأوروبي عن خلق سلسلة من التفاعلات والعمليات المستمرة بحيث لا تكون العودة إلى الوراء ممكنة حتى ولو في شكل موقت خياراً مطروحاً، وكانت قـوة اليورو كما رآها المستشار الألماني السابق هيلموت شميدت تكمن في «عدم قدرة أي شخص على الخروج من دون إلحاق ضرر كبير بدولته واقتصادها». وتكشف استطلاعات الرأي المتعددة على مدى السنوات الماضية أن الناخبين الأوروبيين لا يريدون التخلي عن العملة الموحدة، ويرغبون بقوة في استمرارها، ولكنهم لا يستسيغون ولا يستوعبون الطريقة التي تدار بها المؤسسات الأوروبية حالياً، لهذا فهم يعارضون التوجهات نحو تعزيز الاندماج الذي يعد ضرورياً وفق خبراء الاقتصاد من أجل إبقاء على وحدة العملة. هذا يعني وفق بوكانان «أن الناخبين الأوروبيين لا يريدون التقدم ولا التراجع، كما لا يريدون الثبات أو البقاء في أماكنهم!»، ما يثير الأسئلة الجدية عما إذا كانت النخبة الأوروبية قد أخطأت في حساباتها. عملة موحدة... سوق مضطربة يجهد الاتحاد الأوروبي من أجل الإبقاء على عملته الموحدة، ويعمل ما يمكن من أجل أن تستمر وتقوى ولكنه يواجه بين الحين والآخر أزمات جدية كما هو حاصل مع انخفاض قيمة اليورو إلى أدنى مستوى عرفه حتى الآن. كل المعطيات والمؤشرات والاستطلاعات تؤكد أن الناخب الأوروبي يتمسك باليورو ويريد له أن يستمر كعملة نقدية موحدة، لكنه لا يشعر بالرضى من الطريقة التي تدار بها المؤسسات الأوروبية، كما أنه يعارض ما تقوم به هذه الهيئات من تعزيز للاندماج والتكامل الذي يراه غير ضروري كوسيلة للحفاظ على وحدة العملة. ما الذي يعنيه ذلك؟ يقول مارك بوكانان: «الناخبون الأوربيون لا يرغبون في التقدم أو التراجع، وأيضاً عدم الثبات في أماكنهم». وهذا يثير تساؤلات كثيرة عما إذا كانت النخبة الأوروبية أخطأت في حساباتها، وإذا كان كذلك فهذا يبدو كارثياً برأي مونيه. والآن بعد انتخاب قيادته الجديدة إلى أين يسير الاتحاد الأوروبي؟ وما الذي سيفعله القادة الأبرز لانتشاله من خطر محدق يواجهه لم يعد يقتصر على الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل يهدد مشروعه الأهم الذي تتجمع فيه منظومة قيمه الحضارية الأساسية وهو بناء مجتمعات متعددة الثقافة والدين مع بروز الجماعات الإسلامية الأصولية وامتداد نفوذها إلى الجاليات الإسلامية والعربية، وتحول مجموعات كبيرة منها إلى تبني العنف والإرهاب ضد المجتمعات التي تحتضنها وتمنحها حقوق مواطنيها الأصليين. كذلك مع تبلور جماعات مضادة لهذه الظاهرة لا تقلّ خطورة تتمثل في حركات ذات نزعات شوفينية وقومية متطرفة وفاشية وشعبوية وأصولية مسيحية ترفع شعارات معادية للإسلام والمسلمين في رد فعل على الإرهاب الإسلاموي والأزمات الاجتماعية والاقتصادية. ويواجه المشروع الأوروبي مع وصول حزب «سيريزا» اليساري في اليونان إلى الحكم، أخطاراً جدية وحقائق صادمة، فهذا الحزب يواصل ابتزاز الكبار في الاتحاد الأوروبي بتهديده بخروج اليونان من منطقة اليورو إذا لم يتم التراجع أو تعديل خطة الإنقاذ الأوروبية التي فرضت عبرها المفوضية الأوروبية على البلاد سياسة تقشفية وجعلت من تنفيذها شرطاً أساسياً لمساعدة الدولة التي شارفت قبل أعوام قليلة على الإفلاس. والمشكلة بدأت تتعمق مع بروز أحزاب مماثلة في دول أخرى أعضاء لا تخفي رغبتها في الانسحاب من منطقة اليورو، وربما حتى من عضوية الاتحاد في حال وصولها إلى الحكم على رغم تأكيد المستشارة الألمانية أنغيلا مركل أن هذا السيناريو غير مرجح في الوقت الراهن، لأن إسبانيا والبرتغال وإرلندا التي كانت مهددة هي الأخرى بالإفلاس، تمكنت جميعها من تعزيز اقتصاداتها ومعالجة مشاكلها المالية بسياسات تقشفية وإصلاحات واسعة على جميع المستويات. وكان المستشار الألماني السابق هيلموت كول رأى «أن قوة اليورو تكمن في عدم قدرة أي شخص على الخروج من دون إلحاق ضرر كبير بدولته واقتصادها». إن تنامي قوة الأحزاب والتيارات القومية المتشددة المناهضة للمشروع الأوروبي، في المجتمعات الأوروبية ونجاحها في تحقيق معدلات فوز لا يستهان بها في الانتخابات الوطنية، وفي انتخابات البرلمان الأوروبي يقدم الإجابة على هذه الأسئلة، وهو برأي بوكانان «قد يكون أمراً كارثياً»، لا سيما وأن آراء الناخبين المتضاربة تبعث اليأس في نفوس القادة الذين يريدون تعزيز التكامل، لكنهم مع ذلك يرون في هذه الأزمة وهذه الظاهرة فرصة جديدة لتعزيز التكامل، ويحذرون من أن تكاليف أي خطوة إلى الخلف تفوق الخيال ما يجعل العودة مستحيلة، إلا أن الحقيقة التي ليس بمقدور أي من قادة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المختلفة تجاهلها، أن فقدان ثقة الناخبين في المشروع الأوروبي يمثل رسالة تحذير خطيرة.

مشاركة :