ما من صانع كتب سواه في التاريخ الثقافي العربي المعاصر. محيي الدين اللباد (1940- 2010) الفنان المصري الذي يحتفل العارفون بأهمية تجربته وعمق موهبته وقوة خياله في مختلف أنحاء العالم العربي هذه الأيام بذكرى ميلاده الخامسة والسبعين. ولكن مَن هو اللباد الذي ورث عنه ابنه أحمد مهنته في التنقل الحر بين نعيم الجمال وشقائه؟ سيظل اللباد حياً ما دامت هناك يدان عربيتان تتصفحان كتاباً ورقياً. فما فعله الرجل كان استثنائياً، لا في زمانه فحسب بل في كل زمان يكون فيه الكتاب ممكناً. كان الرجل يحلم بتأسيس مكتبته الخاصة، وهي مزيج متخيل من الروايات العالمية والعربية وكتب الفلسفة والكتب الموجهة إلى الأطفال وكتب الخيال العلمي. لم يكن اللباد يرى مسافة تفصل بين الأجناس الأدبية، وهو ما يعكس فكرته عن الأجناس الفنية ومدارسها، من حيث انسجام بعضها مع بعض، بل وتكاملها، فاللباد كان وليد عصره الخاص، وهو عصر انتقائي، لا يقع في زمن بعينه ولا ينفرد بفن دون سواه، بل يلتقط بأصابع مرهفة ما يفيده، ليلهم حساسيته تفردها الفذ. على مستوى كتب الأطفال (صدرت عن دار الفتى العربي) كان اللباد قد أثر في جيل من رسامي الأطفال، التفوا حوله وهم يلوحون بتحية الوداع لمدرسة والت ديزني وسواها من المدارس الغربية التقليدية. كان اللباد فاتحاً في هذا المجال، لقد حضرت خطوطه من مكان لم يتوقعه أحد ممن يعملون في مجال الرسم للأطفال. مغامرة لبداية كانت قد نجحت في كسر الصورة التقليدية وحفزت أجيالاً من الأطفال على النظر إلى العالم بطريقة مختلفة. ولكن حياة اللباد المبنية على المغامرات ما كان لها أن تتوقف أمام فشل دار الفتى العربي في أن تكون دار نشر جماهيرية، وهو الذي لم يكن في فلسفته الفنية جماهيرياً، بالرغم من تشبعه بمفردات الحياة المصرية. كان عليه أن يبحث عن مخارج أخرى. كان شعاره «إن عشقنا فعذرنا/ أن في وجهنا نظر» مستلهماً بشارة الخوري. لذلك كان يكتب. هو في الحقيقة واحد من أعظم الفنانين العرب دراية بفن الكتابة، ذلك لأن كتاباته كانت بمثابة فقرات من وصيته الفنية، يومياته في التعلم والاكتشاف والاختراع واستخراج الصور وبعث الروح في الأشكال الميتة واستنطاق الصمت، مفكراً بما يعقبه. لقد كسر اللباد يباس الرسوم التوضيحية بنضارة نباتاته الخضراء التي استعارها من كل مكان وصلت إليه يديه. كان عصره يتمدد على بساط من عشب ربيعه الدائم. لقد وهب الرجل نفسه حرية استثنائية وهو يتخيل وجوده عابراً للقارات والحضارات والأساليب الفنية وطرق النظر والتفكير، لا لشيء إلا لأن الشغف بالفن قد منحه حرية أن يكون شاهداً لا يراقبه أحد ولا يخضع لرقابة أحد. فكان تعبيرياً وتكعيبياً وسريالياً وتجريدياً وواقعياً في الوقت نفسه. كان اللباد كل ذلك، بل تجاوزه، ليكون حصيلة ما تعلمه وما ستتعلمه أجيال من الرسامين التوضيحيين من بعده، فاللباد لم يكن كما قلت ابن زمنه، كان عابراً للأزمنة، التي يهمه منها أن تكون طوع خيال يديه، وهما يدان كانتا قد تعلمتا صياغة الجمال بما يفتن. كل غلاف رسمه اللباد وصممه كان محاولة فريدة من نوعها لفتح طريق جديدة للنظر إلى الأشياء، لذلك فإن تكويناته لم تكن تخضع لنظرية جمالية جاهزة ومقننة، بل كانت تركب أشكالها تلقائياً، بفعل تقنيات عديدة كانت هي التجسيد الأمثل لحيوية خيال خصب، كان يضع الأشياء دائماً في أماكن غير متوقعة. لذلك كان اللباد لا يجد راحة إلا في تعدده، فكان يرسم ويخط ويقص ويلصق ويمحو ويضيف ويجمل ويشوه وينقص ويزيد وفق ما يمليه عليه خياله المنفتح على نص لم يُكتب بعد. هل يكفي لإيفاء الرجل حقه القول إن تجربته في صناعة الكتب كانت مدرسة فنية غير مسبوقة وقد لا يهبنا الزمان ما يوازيها؟ حظي الرجل بتقدير عالمي لافت، ففازت كتبه بالكثير من الجوائز العالمية المهمة، وهو ما يشهد له بالتفوق والأصالة والتفرد على مستوى عالمي، غير أن الأهم من هذا يقع في تحويل الإرث الجمالي العظيم الذي تركه إلى درس أكاديمي تتعلم منه الأجيال أسرار صناعة فنية، كانت كما أعتقد جازماً مقدمة للانتقال الواعي إلى عصر ما بعد الحداثة. فعلى الرغم من أن اللباد كان حريصاً على جمالية أعماله، فإنه كان في الوقت نفسه حريصاً على أن تكون تلك الأعمال خزائن أفكار. محيي الدين اللباد الذي غادرنا قبل خمس سنوات لا يزال يقيم في المستقبل.
مشاركة :