أجرى موقع البي بي سي BBC الإخباري بالتعاون مع شبكة البارومتر العربي، استطلاعاً للآراء، حول قضايا التدين والهجرة وحقوق المرأة والموقف من الشواذ جنسياً. ثم نشرت البي بي سي نتائج الاستطلاع تحت عنوان مثير ومضلّل هو: هل بدأ الشباب العربي يدير ظهره للدين؟ أصِفُ العنوان بأنه "مثير ومضلِّل" لأن الاستطلاع كان يسأل عن موقف الشباب العربي من التدين، وليس موقفهم من الدين، والفارق كبير بين الدين والتدين. ولا ينبغي أن يغيب هذا الفارق عن ذهن خبراء المؤسسة الإعلامية العريقة، وعن صُنّاع عناوينها! الدين تشريعات إلهية والتدين استجابة بشرية لتلك التشريعات وفهمٌ لدلالات أوامرها ونواهيها. ومن زاوية أخرى، فإن الدين انتماء والتدين ممارسة قد تتنوع وتتفاوت من شخص لآخر ومن زمن لآخر. لطالما أدى الخلط بين الدين والتدين إلى إفراز ظواهر انحرافية في الموقف من الدين، إما إفراطاً وتشدداً وتشويهاً له أو تفريطاً وتفلّتاً وانسلاخاً من الدين. وقد أفرد عدد من المتخصصين في سوسيولوجيا الأديان كتباً أو فصولاً أو مقالات للحديث عن ثنائية الدين والتدين، وما ينتج عن خطيئة افتراض التطابق بينهما، وليس فقط التقاطع بينهما مع استحضار الفاصل بين الإلهي والبشري. منصة البي بي سي ليست وحدها التي وقعت في هذا الخلط بين الدين والتدين، بوعي أو دون وعي، بل إن كثيراً من أطياف المجتمع الإسلامي نفسه تقع في هذا المزلق. وسأسوق هنا مثالاً واحداً للاستدلال على ذلك، في الموقف الملتبس من ظاهرة (الصحوة) الإسلامية. يمكن ببساطة تعريف الصحوة بأنها: ظاهرة اجتماعية نمت وتمددت في زمنٍ ما وشعارها هو الحث على المزيد من التدين، بطرق وأساليب بشرية معرّضة للصواب والخطأ. الذي حدث لاحقاً أن بعض المنخرطين في التيار الصحوي تداخلت عليهم الحدود بين الدين والتدين، إذ أصبحوا يرون أيَّ نقدٍ للصحوة الإسلامية هو نقدٌ للإسلام نفسه، وأي حرب على الصحوة هي حرب على الدين! وفي هذا الفهم الملتبس تضييقٌ لواسع، فالإسلام الذي هو شرع الله سبحانه وهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر بكثير من أن يتم حجره على مفاهيم الصحوة الإسلامية. وكأننا بهذا الفهم نختزن شعوراً، وإن لم يكن معلناً، بتحجير الرضا الرباني والنجاة على كوادر الصحوة فقط دون غيرهم من سائر المسلمين. لم أغفل عن أن أفراداً قلائل من الذين انتهزوا فتح ملف الصحوة وشاركوا فيه هم من أولئك الذين لديهم موقف جذري من الدين وليس من التدين فقط، لكنّ اندساس هؤلاء في حديث المراجعات لا يجب أن يكون ذريعة لإغلاق باب النقاش حول آليات التدين الاجتماعية، أو للتحسس من نقد الصحوة بما يشبه التحسس من نقد الدين نفسه. كما أن حديثي هنا عن قبول نقد الصحوة لا يعني اتفاقي مع كل ما يساق عنها الآن من تهم، ولكنه قبولٌ بمبدأ النقد الموضوعي لها ونزع القداسة الخفيّة عنها. نعم، الشباب العربي يُجري الآن مراجعات عريضة وجريئة لأنماط التدين التي سادت خلال العقود القليلة الماضية. لكنّ حرصه هذا على مراجعات أنماط التدين يؤكد ارتباطه الوثيق بالدين وليس إدارة ظهره له!
مشاركة :