التفوق الدراسي سلاح بسطاء مصر لتحقيق العدالة الاجتماعية

  • 7/20/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أقرت وزارة التربية والتعليم المصرية، الأحد، بأن 87 بالمئة من أوائل شهادة إتمام مرحلة الثانوية العامة، من مدارس رسمية مجانية، وأن باقي النسبة (13 بالمئة) ذهبت إلى طلاب المدارس ذات المصروفات الدراسية مثل التجريبية والقومية والخاصة والدولية، وبالتالي فإن النسبة الأعلى في التفوق الدراسي والتميز العلمي كانت في المؤسسات التعليمية الرسمية التي تصارع من أجل البقاء من شدة الإهمال. وتعكس نتيجة البكالوريا أن مدارس البسطاء ما زالت المصدر الأهم لتخريج عقليات علمية قادرة على التغيير الاجتماعي والسياسي بحكم تميزها وتفردها بسمات استثنائية تؤهلها لقيادة أي حراك مستقبلي. وهو ما تدركه بعض الدوائر السياسية التي لا يستهويها أن تصعد الطبقة المهمشة اجتماعيا، وغير المقتدرة ماديا، لتأخذ مساحة أكبر، مقابل الاهتمام بأبناء الرأسماليين والقريبين من دوائر صناعة القرار لتناغم هؤلاء مع السلطة بشكل أكبر. ما يعزز هذه القناعة أن الكثير من الوجوه التي يتم الاعتماد عليها في مشروع شباب البرنامج الرئاسي، لإعداد جيل جديد متمرس على القيادة، من خريجي المدارس الخاصة والدولية (أكثرها تابع لسفارات) والاستثمارية المملوكة للحكومة، ونادرا ما يكون بينهم شاب ينتمي إلى أسرة بسيطة أو متوسطة، لأنه بلا خلفية اجتماعية معروفة عن أسرته والبيئة التي نشأ فيها. الحكومة المصرية تتحجج بوجود أزمة اقتصادية تحول دون بناء مدارس جديدة، مع إصلاح القائم منها بالفعل وترى الكثير من الدوائر الحكومية والسياسية، وحتى الأمنية التي تشارك في صناعة القرار، أن وصول أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة إلى سلم القيادة عموما، قد يتسبب في صداع مزمن للسلطة، بحكم أن السمة الغالبة عند هذه الفئة أنها تكون حرة ومستقلة القرار والكلمة وترفض تلقي التعليمات أو اتخاذ قرارات لا تتفق مع قيمها وعاداتها وتقاليدها. ويفسر ذلك دائما بأن تلك الطبقة لا يوجد ما تخسره، فهي نشأت بالأساس في بيئة اجتماعية يسودها الحرمان من أدنى متطلبات الحياة. ومن شأن التفوق الدراسي لأبناء المهمشين أن يعرقل احتكار الصفوة قيادة الحراك الاجتماعي والسياسي والتأثير في الرأي العام، لأن تميزهم العلمي سوف يقودهم إلى الالتحاق بكليات جامعية تؤهلهم مستقبلا لاعتلاء مناصب حيوية بعيدا عن اضطرارهم للبحث عن قنوات العلاقات والوساطة والمحسوبية ودفع الرشاوى. أيّ أن وجودهم كقوة تقود التغيير والحراك يفترض أن يكون بالأمر الواقع، سواء كانت هناك إرادة حكومية، أم لا. وأكد رضا حجازي مساعد وزير التربية والتعليم في تصريح لـ”العرب” أنه “لولا أبناء البسطاء لما كان في مصر عباقرة ونابغون وأمناء على المستقبل، لأنهم أكثر قدرة على تحمل المسؤولية وإثبات النفس وتجاوز الصعاب مهما كانت الظروف قاسية، وإذا توافرت لهم نصف إمكانيات باقي الفئات بالمجتمع لتغيرت المعادلة التعليمية في مصر تماما”. اقتناص الوظائفوكشف المستوى الاجتماعي للمتميزين علميا في البكالوريا المصرية، حجم الوعي الفكري والثقافي لأبناء البسطاء والمهمشين، لأنهم اعتبروا التمسك بالتفوق الدراسي يظل السبيل الوحيد لمواجهة تسهيل الحكومة مهمة تقسيم التعليم إلى طبقات اجتماعية، يحتكر فيها خريجو المدارس والجامعات الدولية والخاصة ذات المصروفات الدراسية المرتفعة، سوق العمل والوظائف وسلم الترقي الاجتماعي، وبالتالي لا بديل للفقراء عن مواجهة النفوذ المتصاعد اجتماعيا لخريجي المدارس الاستثمارية سوى بالتفوق. وتسود بين أغلب الطبقات الاجتماعية في مصر قناعة راسخة، بأن خريجي المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية ذات المصروفات الدراسية باهظة التكاليف، أكثر الفئات التي تستأثر بالوظائف المهمة في الجهاز الإداري للدولة، وسلك التدريس بالجامعات، والشركات الكبرى، ما وسع دائرة الطبقية في المجتمع. وتكمن المشكلة أيضا في أن الكثير من هذه الفئة التي تشارك في قيادة المؤسسات الحيوية، وصلوا إلى المناصب بالنفوذ والمال والعلاقات، وليس بالتميز العلمي الاستثنائي. ويعكس هذا الواقع أن الفئة التي تلحق أبناءها بمدارس حكومية هي الأكثر تقديسا للتعليم وتعتبره بوابة الخروج من دائرة الفقر، والوصول إلى مكانة اجتماعية لائقة تناهز تلك التي يعيشها أبناء الطبقات الميسورة، باعتبار أن أكثر المتفوقين من أبناء البسطاء يلتحقون بجامعات دولية وخاصة عن طريق منح مجانية مكافأة لهم على التفوق، وبالتالي يعتبرون التميز الدراسي مدخلا لمساواتهم مع أبناء الأغنياء. تكريس الطبقية في التعليم يبدأ بتجاهل إصلاح المدارس الرسمية مقابل التوسع في نظيرتها الاستثمارية من هؤلاء أحمد سويف -وهو أحد أوائل البكالوريا من خريجي المدارس الحكومية- الذي قال لـ”العرب” “أسرتي بسيطة للغاية، وحلم والدي الذي يعمل إداريا في إحدى المدارس، أن ألتحق بالجامعة الأميركية، وأتفوق وأكون أحد أساتذتها، أو مسؤولا بارزا في الحكومة بحكم دراستي الأجنبية، ولأنني أدركت صعوبة الحلم لعدم توافر المال، كان البديل الوحيد التفوق الدراسي والحصول على منحة مجانية تؤهلني لتغيير واقع عائلتي”. لا ينكر أحمد شعوره الدائم بأن هناك دوائر حكومية تريد إقصاء أبناء الطبقة البسيطة عن الوصول إلى مناصب حيوية، رغبة منها في أن تكون زمام الأمور بيد أصحاب المال والأعمال والرأسماليين والعائلات الكبيرة في الدولة، لذلك تشجع هذه الدوائر على التوسع في التعليم الاستثماري، مقابل إهمال المدارس الحكومية وتضييق الخناق على أبنائها، لتغلق أمامهم منافذ الوصول إلى القيادة. وأضاف أن مشكلة الحكومة في مصر أنها تقتصر في إصلاح التعليم على تطبيق نظم تربوية أوروبية في مدارس استثمارية تخاطب أبناء طبقة اجتماعية بعينها وتستطيع التناغم مع الثقافات الغربية، وفي المقابل وجدت أن إنفاق المليارات على مدارس رسمية مجانية بغرض التطوير والإصلاح، يكبّد خسائر جسيمة، منها ما يرتبط بالمال، ومنها ما يتعلق بالمجهود والوقت، فكان التفوق العلمي الخيار السهل أمام أبناء البسطاء لتعويض تجاهل الحكومة لهم. عبء ثقيلأزمة الكثير من المؤسسات الحكومية في مصر أنها أصبحت تعتبر التعليم الرسمي الذي يستهدف أبناء البسطاء، عبئا ثقيلا يجب التخلّص منه في أقرب وقت ممكن، بعد أن كان إصلاحه وتطويره والتوسع في منشآته واجبا وطنيا وحقا دستوريا، وبالتالي ترى أن مخرجاته لم تعد ذات قيمة تُذكر في تحضر المجتمع، والبديل أن تكون هناك مؤسسات تعليمية متطورة تستهدف أبناء طبقات اجتماعية ميسورة، لضرب عصفورين بحجر واحد، الأول تخريج قادة مستقبل منهم، والثاني أن ذلك لن يكلفها شيئا. ثمة معضلة أكثر تعقيدا ترتبط بنظرة الحكومة في مصر لتطوير وإصلاح التعليم الرسمي، مقابل نظرة البسطاء أنفسهم، فهي تعتبر أن مسار الإصلاح يبدأ ببناء العقول قبل الجدران، أي من خلال تعميم التعلم الإلكتروني باستخدام أجهزة إلكترونية على غرار التابلت. وحتى عندما قررت ذلك، أخفقت في المهمة، في حين أن الفئة المستهدفة من التعليم الحكومي لا تريد أكثر من الحد الأدني للخدمات، مثل حمامات نظيفة وقاعات تدريس آدمية ومعلمين مدربين. لم تكتف الحكومة بتشجيع التعليم الموازي، إنما أيضا تراخت عن الحفاظ على ما تبقى من هيبة التعليم الرسمي. فمثلا، أصبح المعلم ينشغل بالدروس الخصوصية ويهمل واجباته الأساسية، وكثيرا ما يتقاعس عن تدريس المنهج في المدرسة بشكل متعمد، طمعا في دفع التلاميذ إلى الحصول على دروس خصوصية لدعم راتبه الهزيل، وكل ذلك يحدث تحت عين وزارة التربية والتعليم، التي تخشى معاقبة المعلمين على التقصير فتكون النتيجة قيام المعلمين بطلب زيادة الرواتب، والحكومة لا تمتلك رفاهية المال. كانت النتيجة الطبيعية للتوسع في المدارس الاستثمارية على حساب إصلاح نظيرتها الحكومية في مصر، وجود فجوة مجتمعية شديدة التعقيد، تكمن خطورتها في أن الحكومة ذاتها هي التي تقود هذا الحراك، بذريعة البحث عن بدائل جديدة لإنهاء أزمة الكثافات الطلابية، وبدلا من بناء مدارس حكومية جديدة تستهدف الطبقة الاجتماعية الأكبر في التركيبة السكانية -البسطاء ومتوسطي الدخل- لجأت إلى إنشاء مدارس حملت شعار للأغنياء فقط.ورأى طارق نورالدين، الباحث والخبير في السياسات التعليمية، أن الاعتماد على أن تقوم المدارس الاستثمارية بدور بديل عن نظيرتها الرسمية لرفع العبء عن الحكومة، لن يجني سوى المزيد من التقسيم الطبقي للمجتمع، ويهدر الكثير من الموارد والقدرات البشرية الهائلة التي تتمتع بكفاءات علمية، وبالتالي فإن الدولة المصرية مطالبة بأن تقتنع سريعا بأن المدارس الحكومية مهما بلغت سلبياتها، فإنها تظل القادرة على تخريج نوابغ يستطيعون تحمّل مسؤولية أي تغيير اجتماعي وسياسي في المستقبل. وتتنوع المدارس في مصر حسب القدرات المالية للأسر، وأصبحت هناك مدارس حكومية للبسطاء بعضها تأسس منذ 50 عاما ولم تمتد إليه يد التطوير والإصلاح، وأخرى تجريبية للأسر المتوسطة وتبلغ مصروفاتها نحو مئة دولار، وثالثة يابانية للأهالي التي تستطيع توفير 10 آلاف جنيه سنويا (600 دولار) وأخرى خاصة ودولية لأبناء الطبقة الميسورة، ما أدى إلى اختلاف الثقافات والقيم الاجتماعية وتشعب الأحلام والطموحات لدى الطلاب وأسرهم، وغياب العدالة الاجتماعية في فرص التعليم. وقال طارق نورالدين لـ”العرب”، إن العدالة الاجتماعية لا تتحقق في أي بلد ما دامت فرص التعليم غير متساوية، وعندما يتساوى المقتدرون ماليا بالمتفوقين علميا بمجهودات ذاتية، فلا حديث عن وجود عدالة أو تكافؤ في الفرص، لأن العدالة تتحقق عندما يتمكن كل فرد في المجتمع من الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي بناء على معايير الجدارة. وتتحجج الحكومة في مصر بوجود أزمة اقتصادية تحول دون توفير 100 مليار جنيه (600 مليون دولار) لبناء مدارس جديدة، مع إصلاح القائم منها بالفعل، في حين يشير الواقع إلى أنه بإمكانها توفير هذه المبالغ، بدليل قيامها بإنشاء مشروعات تنموية وشبكات طرق بمبالغ تتجاوز أضعاف الرقم المطلوب. وقالت رويدة إبراهيم -إحدى أوائل الجمهورية في البكالوريا المصرية- إن “الحكومة لا تدرك أن الطالب الذي تفرد بالتميز العلمي في ظروف أسرية واجتماعية بالغة القسوة، هو القادر على القيادة الآمنة لسفينة الإصلاح والتطوير مستقبلا، لأنه ولد من رحم الشقاء وتحمل المسؤولية ولم يترب على الرفاهية والاسترخاء والإهمال”. وأضافت لـ”العرب” “أن الفكر الاستثماري الذي أصبح يسيطر على مسؤولي التعليم في مصر، لن يجني سوى الخراب للمدارس الرسمية، مقابل التوسع في نظيرتها الخاصة والدولية، ما يقود إلى تعميق الطبقية والفوارق الاجتماعية، واقتصار فرص التعليم على من يمتلك المال، وليس من يمتاز بالمهارة والفكر والتميز العلمي. عندما يتحول التعليم إلى سلعة تستهدف المقتدرين فقط، فسوف يتحول المجتمع إلى عنصري بامتياز”. ويرى مراقبون أنه لا مانع من الاهتمام الحكومي بالتوسع في إنشاء مدارس استثمارية تستهدف طبقة اجتماعية بعينها تبحث لأبنائها عن الراحة والرفاهية مع التعلم، شريطة أن تكون هذه النوعية من المدارس مكملة لنظيرتها الرسمية، وليست بديلة عنها، مع حتمية المساواة في الرعاية والاهتمام، أو على الأقل إظهار نيّة الإصلاح والتطوير ولو على مراحل متلاحقة.وتعتمد المدارس الاستثمارية التي تدعمها الحكومة على نوعين من التركيبة المجتمعية للسكان، النوع الأول هو الطالب الذي ينتمي إلى أسرة تدرجت حياتها ومرت بظروف كل الطبقات، الفقيرة والمتوسطة والميسورة، حتى استقرت في نهاية المطاف وسط الطبقة المقتدرة ماديا، لكنها ما زالت تحمل سمات وعادات باقي الطبقات، وهذه الأسرة تريد لابنها تعليما بمستوى راقٍ وعصري بعيدا عن زحام المدارس الحكومية، واعتمادها على معلمين غير مؤهلين، وإدارات مدرسية عقيمة. النوع الثاني من الطلاب ينتمي إلى أسرة نشأت في ظروف ميسورة الحال، أي لم تكن لديها ثقافة طبقة بعينها، وهذه النوعية من العائلات لا يكون لديها هدف أو رؤية واضحة عن سبب الالتحاق بالمدرسة الاستثمارية أو الخاصة والأجنبية، والمهم أن يكون في المدرسة أبناء الطبقة الميسورة ماديا، وليس الفقراء. تكمن الخطورة الاجتماعية في أصحاب الفئة الثانية من الطلاب وأسرهم، فلا يحتكون سوى بأمثالهم من الطبقة ذاتها التي ينتمون إليها ويدرسون معهم، وتكون أغلب حياتهم -تقريبا- قائمة على شراء إعجاب الناس بمستواهم التعليمي كنوع من الوجاهة الاجتماعية، حتى أن صداقاتهم تكون بشكل انتقائي، وأحيانا يلجأ البعض منهم إلى بناء صداقة مع أبناء طبقة أقل ليمارسوا الاستعلاء عليهم، باعتبار الأغنى والأوفر حظا في عيش حياة الرفاهية والتحرر. ويقود ذلك إلى حقيقة منطقية مفادها أن تكريس الطبقية في التعليم يبدأ بتجاهل إصلاح المدارس الرسمية مقابل التوسع في نظيرتها الاستثمارية بحيث تستهدف كل منها طبقة بعينها. وهو ما من شأنه أن يعمق الاستقطاب الاجتماعي، ويرسخ ثقافة احتكارُ فئةٍ محددة التحكمَ في زمام الأمور وتقلد الوظائف الهامة، من أبناء المقتدرين ماديا، وأصحاب العلاقات والنفوذ، ويظل البسطاء وأبناؤهم قابعين داخل دائرة مغلقة عليهم، لا يخرجون منها، إلا من خدمته الظروف وأنجب نوابغ لديهم القدرة على التفوق الدراسي ومزاحمة أبناء الصفوة في قيادة الحراك الاجتماعي.

مشاركة :