في الأزمات على اختلاف أشكالها دائما ما تكثر التساؤلات عن النخب وما تقوم به من أدوار، حتى أننا نصل إلى مرحلة المساءلة والتقييم لمدى فاعليتها اجتماعيا في أحيان، ونضطر إلى الحكم بفشلها وإخفاقها في الدور المنتظر منها في أحيان أخرى، وقد قالها لي ذات مرة أحد الأخوة العرب بعد أن عاش في المملكة ما يقارب الأربع سنوات، ولفتني بما قاله، بوصفه قدّم حكماً حيادياً بين قطبي النخبوي والشعبي في مجتمعنا، فيقول: إن المجتمع السعودي يشهد حقبة من حقب التحول الجذري بصعود الشعبي وتراجع النخبة، واعتبر في الوقت نفسه أن الخطوات التي ينجزها المجتمع بسواده الأعظم أسرع بكثير من الخطوات التي تنجزها النخبة في إحداث التجديد والتحديث، علما بأن حديثه كان ينصب على النخبة المثقفة. مثل هذا الحكم الذي يتبناه كثيرون جدير بالفحص والمراجعة، هل هناك بالفعل حالة تحول في الأدوار؟ جعلت المجتمع يتقدم على النخبة المثقفة في التأثير المجتمعي، وهل أبدت النخب المثقفة عجزها في المواكبة والفاعلية؟، ثم هل نستطيع الإقرار بفكرة بروز الشعبي الذي عبر عنها الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي»؟، وأعطى مثالا حيا، بالصورة وقوة حضورها الذي عوّض الأمي جهله بالقراءة والكتابة، وأتاحت له فرصة لعب الأدوار التأثيرية في مجتمعه بما توفره له من إمكانات. يقول الدكتور الغذامي: «سقطت النخبة إذن، ولكن ليس بمعنى أنها اختفت ولم تعد قائمة، وإنما أنها فقدت دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعا لذلك رمزيتها التقليدية التي كانت تملكها من قبل.. ويضيف: لقد كانت الرمزية من أهم معالم الثقافة الكتابية، وهي ما تلاشى في زمن الصورة وحلت محله النجومية». هذا يعني أننا حيال حقبة سانحة لتأجيج السباق بين النخبوي والشعبي وأن ما توفره التكنولوجيا حاليا من قنوات لكل أفراد المجتمع على حد سواء يخلق معادلة جديدة، فالمثقف الذي كان يمتلك قوة الكلمة عبر المساحة الإعلامية الوافرة، من صحف وقنوات تلفزيونية ومؤسسات طباعة ونشر تفتح له أبوابها مشرعة لم يعد وحيدا في الساحة أو المستحوذ على هذه الإمكانات، فهناك من يجاريه ويباريه بقنوات جديدة متاحة للكل، برامج تواصل اجتماعي مشرعة الأبواب على مدار اليوم، بل أنها تقدمه صورة وصوتا، ناهيك عن سرعة التواصل المذهلة وبأقل التكاليف، وهنا يتضاعف القلق حيال ما يقوم به المثقف من دور مجتمعي، والذي لطالما وصم بالتقاعس عن التأثير والفاعلية، وهنا استحضر نموذجا حيّا لهذه الصورة النمطية المكرسة عن النخبة المثقفة، كالذي أورده صاحب كتاب «النخب السعودية.. دراسة في التحولات والإخفاقات»، ويقول: «.. كل ذلك يدفعنا إلى الاعتقاد في تقصير المثقف السعودي في تلمس القضايا الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسياسية لمجتمعه، واستبصار احتياجات الوطن حتى في أبسط الخدمات الإنسانية والاجتماعية، فخلت الساحة من صحافة وإعلام وتأليف ومؤسسات معنية بالأدب والفن من أي مضمون جاد، مما أدى إلى تكريس تلك المنابر للإعلام الرياضي المقتصر على الكرة والشعر الشعبي الغزلي المبتذل والأغنية الركيكة والمسرح الساذج». ووفقا لهذه التصورات هل للنخبة السعودية المثقفة من كلمة، تتمكن من خلالها بلعب دورها الحقيقي على أرض الواقع، لتساهم في التنمية المجتمعية، التي لا تكون من النخبة إلى النخبة، بل إلى عامة الناس، كي تبرهن على أن المثقف لا يزال هو محور ومرتكز التنوير في مجتمعه، ولا يزال يعوّل على فاعليته وقوة حضوره، من أجل مجتمع واعٍ متحضر.
مشاركة :