حصد الشاعر محمد صرخوه أخيراً إحدى جوائز مسابقة توليولا ريناتو فيلبي الإيطالية للشعر العالمي في دورتها الـ 25 عن قصيدته "الركبة الهشة للضوء"، مشيراً إلى أن الساحة الشعرية لا تعيش أفضل حالاتها، بل اختلط الحابل بالنابل وبات الجميع شعراء. "الجريدة" التقت صرخوه للحديث عن ظروف مشاركته في المسابقة الإيطالية وقضايا أخرى، وفيما يلي التفاصيل: ● ماذا يعني لك الفوز بجائزة ضمن مسابقة توليولا- ريناتو فيلبي الإيطالية الدولية ؟ - عموماً الجائزة بحد ذاتها يجب ألا أن تكون المطمح الأكبر للشاعر، إنما العمل المشارك نفسه، أن يحول الشاعر فكرة الجائزة إلى وقود يدفعه نحو إنتاج المزيد من الإبداع، على يكون إبداعاً حقيقياً كماً وكيفاً، فتلك خير طريقة للتعامل مع فكرة الجائزة. أحببت أن أقدّم اسم الكويت في فعالية مشرّفة كفعالية مسابقة توليولا – ريناتو فيلبي الإيطالية. كما أحببت أن أقدّم شيئاً لقصيدتي. كتبت الركبة الهشة للضوء إثر دخولي لحالة روحية عميقة قبل ثلاث سنوات، أتذكر كل تفاصيل أوقاتي تلك، كمن يتذكر وطناً يحنّ إليه، كل تلك التفاصيل، الأسئلة التي كابدت، والحالة التي تتدخل في زوايا المشهد اليومي لتقلبه إلى عالم الأعماق، حيث يصبح تناول الغداء، والجلوس في المقهى، وارتياد صالة الرياضة، والاستماع لأغنية ما... أحداثاً غير عادية، يهندسها كائن غيبي يكمن في أعلى افلاك النفس... كل تلك الحالة التي أوصلتني إلى عدم الرضا عن الضوء! هذا العدّاء الذي هزم كل خصومه في مضمار السرعة... ثمة من أوقفني على ركبته الهشة... ثمة من أشهدني انهزامه... تقول بعض أبيات القصيدة: لا تستدر إن طاف كل العابرين بأجرة قبل العناقات الأخيرة ونبشت صندوق المكان وراءهم، فسمعت قهقهة الفراغ فما هنالك صوت من أحببت يغوي مسمعيك، ولا المذاق المستساغ... كتبت هذا قبل ثلاث سنوات، في المراحل الأولى من إنجازي كتاب التأملات الفلسفية، والذي يعد أحد الكتب الثلاثة ضمن كتاب أكبر أسميته كتاب اللوتوس.. كتبت ذلك قبل ثلاث سنوات، أتحدث عن لا فرقية الغياب والحضور، وتمازج الموت بالحياة، وعدم تناقضهما.. وبعد ذلك.. وفي نهاية ديسمبر الماضي.. سافر والدي إلى الغيب، ولا أدري متى يرجع.. كيف أحسست بذلك قبل ثلاث سنوات فعبرت عنه بالركبة الهشة؟ النفس وحدها، بعالمها العميق.. تجيب عن هذا السؤال، وعلى كل حال، أحببت أن أقدّم هذه التجربة.. هذه القصيدة، أمام العالم... وشدني بريق العتبة الإيطالية. فإيطاليا بلد الفن، بلد يقطر شعراً من كل زوايا تاريخه، هناك حيث مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ودانتي وبافاروتي وغيرهم ممن أثر على روحي، خير مكان أضع فيه اسمي واسم تجربتي وقصيدتي.. فيقال، جاء من الكويت. ● كيف جاءت مشاركتك في هذه المسابقة؟ - كنت جالساً في المقهى لما وردتني رسالة من أحد أصدقائي الشعراء يخبرني بأمر المسابقة، وقد أرسل لي عنوان البريد الإلكتروني الخاص بها، وكانت الشروط تقتصر على ألا تتجاوز القصيدة الثلاثين بيتاً، وأن تترجم إلى الإنكليزية، فترسل بنسختين، عربية وإنكليزية إلى المسابقة، بعد ذلك عرضت الفكرة على أختي الأديبة الأستاذة رفيف الصبّاح من لبنان، فتكفلت بترجمتها كاملة، وأرسلتها بدوري إلى عنوان المسابقة. ● هل ترى أن الساحة المحلية الشعرية تعيش أفضل حالاتها؟ - لا تعيش الساحة الشعرية أفضل حالاتها، فقد اختلط الحابل بالنابل وباتوا كلهم شعراء! ● هل صحيح أن الرواية تسيطر على المشهد الثقافي، والشعر أصبح في درجة أقل؟ - هذا رأي شائع جدا، وهو رأي خاطئ تماماً، تأمل معي، من الذي يحبه الناس في الرواية ؟ هم لا يقرأون الرواية لاستمتاعهم بالسرد، أو تحليلهم لعناصر فن الرواية من زمان ومكان وحدث وشخصية وإلخ... وإنما كل ما يقومون به هو البحث عن تلك الجمل والأفكار غير الاعتيادية المبطنة في شطور الرواية هنا وهناك، فيقومون بتصويرها واقتطافها وثم نشرها على "تويتر" و"إنستغرام"... ضع ذلك في السلة، ثم تصفّح بعض الصفحات الشخصية للروائيين أنفسهم ولعامة الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، ستجدهم يعبرون عن أنفسهم بجمل قصيرة ذات تراكيب لغوية لا تنتمي إلى منطق اللغة اليومية الاعتيادية، فيعبرون عن أنفسهم مثلاً بالقول، أنا مشروع نهر سيتفجر على صحراء القلب، أنا إنسان ونصف! وإلخ... وكل تلك التراكيب تشترك في واقعها مع تراكيب اللغة الشعرية، مما يعني أنهم ميالون للتعبير عن أنفسهم بمنطق شعري لا منطق اعتيادي يومي، ضع ذلك أيضاً في السلة، ثم ناقش أحدهم حول مفهوم الروح، ستجد أنه لن يخوض معك النقاش على الطريقة الأفلاطونية الصارمة، وكل ما سيفعله هو إيجاد هامش فضفاض من التعبير ينفذ إليه بعيداً عن منطقك اليومي الصارم، كأن يقول، لا دليل على الروح سوى هذا التأجج الذي نستشعره فينا! وبذلك يعتبر نفسه أجابك عن سؤالك! كل ما في الأمر أن الناس لم يعودوا يستسيغون الشعر بشكله الاعتيادي (القصيدة)، فالقصيدة شكل من أشكال الشعر. الشعر هو حالة تجاوزية فكرية لغوية كاسرة للعادة، فهو بالتالي بطبيعته يتفق مع مفهوم البدعة والابتداع والعبقرية، وهنا نجد الرابط المشترك في عقول القدماء بين الشعر وجن العباقرة، إذ تقول الأسطورة إن الإلهام الشعري يتأتى من جن وادي عبقر الذين يلقونه في نفس الشاعر... فهو إذن في فطرته حالة غير اعتيادية ذات فضاء تأويلي كبير تنبعث منه كل المشاعر الكامنة، فإن جاءت هذه الحالة الشعرية بصرية ولّدت اللوحة والمنحوتة والتصميم الهندسي، وإن جاءت الحالة الشعرية سردية ولّدت الرواية والقصة، وإن جاءت صوتية ولّدت القصيدة، وإن جاءت نغمية ولّدت الموسيقى... فالزمن هو زمن الشعر! بامتياز... هذا ما يبحث عنه الناس في الرواية.. ومتى ما قرأوا الرواية شغفاً بعناصر السرد المعروفة، جاز لنا القول إنه زمن الرواية.. لكن ذلك لا يحدث إلى حد الآن. ● كنت أحد أعضاء ورشة السهروردي، كيف ساهمت الورشة في صقل موهبتك وتأثيرها إيجابياً على نتاجك؟ - كنت ؟ بل مازلت... ورشة السهروردي ومؤسسها الأستاذ محمد عبدالله السعيد، أعطياني كل شيء... البيت الذي تربيت فيه وبيئة والدي المرحوم زرعا فيّ البذور الأولى، فنمّاها الأستاذ السعيد، وأضاف اليها أنواعاً أخرى.. وأجج كل ما فيها من طاقة... في الورشة تعرفت على الفلسفة، والأسطورة، تعلمت كيف أفكر وكيف أعيش... الورشة ليست تقليدية على طريقة حلقات الدروس في مراكز الدورات، وإنما ترقى لمستوى الأخوية الروحية، حيث يعيشها الإنسان خارج الجدران، يتنقل فيها بين الشوارع والمقاهي، بين الأفكار المجردة والمجسدة، في الورشة لي أصدقاء تاريخيون، كسقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت، كما لي أصدقاء يجيئون من صفحات الأساطير كجلجامش وهرقل.. في الورشة قرأت تجارب الشعراء، وتعرفت على حيثيات ولادة أغاني أم كلثوم، والظروف التي مر فيها السياب... في الورشة درست ودرّست ومثّلت وكتبت... حتى بتّ أعدّ نفسي ابن الورشة البكر... الورشة بيتي... وهذا كل شيء... ومحمد عبدالله السعيد والدي الروحي. جلت الكثير من البلدان وحضرت ما يكفي من الورش والمنتديات لأدرك جودة ورشة السهروردي، هي ليست ورشة قضاء وقت فراغ أو مجلس من مجالس الأُنس، وإنما هي دائرة عمل جاد، يأخذ كل الإرث الإنساني على محمل الجد، يدرسه ويحلله ويستخلص منه تجربة، قد يُطرد منها عضو لعدم قراءته للكتاب المحدد في الموعد المحدد! ولا مجال للاستمرارية فيها إلا لمن أراد العمل الجاد.. وهذا ما لم أجده في أي مكان آخر. الإبداع لا يحده حد حول ما إذا كان الفوز بالجائزة يعني بلوغ أرقى درجات التفوق شعرياً، يقول صرخوه:" لا أبداً، علماً أن ذلك يعتمد على نوعية المسابقة، وبالتالي على لجنة التحكيم، بالتالي يعد الأمر نسبياً، أما الإبداع فلا يحده حد، فكم من شاعر شارك في مسابقات كانت فيها لجان التحكيم أدنى من قصيدته مستوى! فظُلمت قصيدته... المشاركة في مسابقة ما هو تتويج لتجربة مختزلة في نصّ، ولا يعني بلوغ الذروة الإبداعية بأي شكل من الأشكال، وعلى فكرة... ليس ثمة ذروة للإبداع! وإن شعر أحدهم بأنه بلغ الذروة الإبداعية، فأنصحه بمراجعة أقرب مصح نفسي في الحال فلعله مصاب بشيء من البارانويا! هذا كلام جاد لا مزاح فيه! المسار الثقافي والمسلك التجاري يرى صرخوه أن انتشار الملتقيات الثقافية في الساحة المحلية، قد يصب في مصلحتها، وقد يضر.. فهو يصب إذا كانت المنتديات تنشر التجارب بين أفراد الساحات الثقافية العربية وغيرها، فيطلع الكل على تجارب بعضهم فتعم الفائدة من جهة، ومن جهة أخرى إذا عملت هذه المنتديات لهدف جاد كالإتيان بمخرجات ثقافية جادة وحالات إبداعية جديرة بالاهتمام، وهذا لا يكون إلا بمنهج.. أما إن تحول الأمر إلى تكتلات تكيل لبعضها الدسائس، وتساوت الرؤوس على طريقة (برأيي هذا شعر وبرأيي هذه رواية) فسيكثر الضجيج ويقل الحجيج وتزدحم المطابع حتى يقال استبدلوا المطابع بفقاصات بيض! ما يجري اليوم كله مؤلم بحق، فالكثير من الشبان والشابات يطبعون متفردين بأوهامهم، لا أحد يقول لهم تريثوا، لا أحد يدلهم على مواطن ضعفهم، فنجد الواحد منهم يبتلع كبسولة المنوم ليلاً فيبيض مع بزوغ الشمس عشرة دواوين دفعة واحدة متخمة بالهراء والسطور المضحكة وثلاث روايات! ولا مستفيد غير دور النشر! مما يعني تحوّل العمل الإبداعي عن مساره الثقافي ليدخل في مسلك التجارة! و متى ما كان ذلك، فقل على الأدب السلام.. وهنا تكمن أهمية المنتديات في لعب دور المصحح لإرجاع القافلة إلى مسارها الصحيح وهذا لا يحصل الآن مع بالغ الأسف.. ولذا تجد أن كل المخرجات الإبداعية الجادة هنا وهناك تأتي نتيجة عمل فردي خالص على الرغم من كثرة انتشار المنتديات في كل مكان.
مشاركة :