يوسف أبولوز لم تأخذ طريق تجارة دولية في العالم من الشهرة والجاذبية التاريخية والثقافية، وحتى الفضول الجغرافي مثلما أخذت «طريق الحرير» الممتدة مثل شرايين متوازية شمالاً وجنوباً منذ مئات السنوات. فبعض مصادر تاريخ طريق الحرير تقول إن هذه الطريق التجارية والثقافية أيضاً تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ولها فرعان: فرع شمالي يصل حتى شبه جزيرة القرم ومدينة البندقية، وفرع جنوبي من العراق، مروراً بمصر وحتى شمالي إفريقيا، لكن في كل هذه الخريطة تبقى الصين هي مبتدأ هذه الطريق، فاسمها ارتبط بالحرير (طريق الحرير) والحرير «اسم آخر للصين»، اكتشفه الصينيون في حوالي 3000 قبل الميلاد. وإذا كانت بعض السلع توزن بالذهب مثل الملح في الحضارات القديمة وفي آسيا أيضاً، فإن الحرير الصيني كان يوزن بالأحجار الكريمة.طريق الحرير، إلى جانب أنه طريق تجاري، يخيل إليك أنه في اتجاه واحد، وهذا تخمين لا أكثر ولا أقل، فالحرير ومعه البهار والعطور، وسجّاد أوزبكستان وكازاخستان حيث تمر من هناك طريق الحرير.. كل ذلك كان يذهب إلى أوروبا والشرق الأوسط عبر آسيا الوسطى، من دون أن تعود القوافل إلى الصين ببضاعة مشابهة من أوروبا إلى بلد التنين.. إن الحرير وصناعته وثقافته هو امتياز وطني.لم تكن الصين دولة استعمارية تتخذ من صناعة وخياطة وتسليع الحرير هدفاً انتهازياً للسيطرة مثلاً على التجارة العالمية آنذاك، ولم تكن القوافل الصينية تُصدّر من ضمن تجارتها الفكر الكونفوشيوسي، أو البوذية، أو الطاوية، فهي ليست بحاجة إلى مثل هذا التصدير الأيديولوجي أو الفكري والفلسفي إلى الغرب الأوروبي والشرق المتوسطي؛ بل كانت الحكمة الصينية وحدها كفيلة بجذب ما يُسّمى «الآخر» إلى سور الصين العظيم ليس بهدف اقتحامه؛ بل بهدف كشف أسرار كنوزه.. لكن طرق التجارة شئنا أم أبينا هي في الوقت نفسه طرق ثقافة.. القماش وصناعته وتطريزه ومحموله التشكيلي والفني هو ثقافة، لكن الثقافة الصينية لم تكن يوماً في التاريخ القديم والمعاصر ثقافة استعمارية. وفي هذا الصدد يقول كونراد زايتس في كتابه: «الصين عودة قوة عالمية»: «إن الصينيين لم يستعبدوا الشعوب الواقعة وراء البحار أو يُبيدوها، كما فعل الغزاة الإسبان مع شعب الأزتيك في المكسيك وشعب الانكا في جنوب أمريكا، أو كما فعل المستوطنون البريطانيون بالهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ولم يؤسس الصينيون مستعمرات عبر البحار تحتم عليهم احتلالها وإدارتها؛ بل كانوا يكتفون بأن يقوم أعضاء الإمبراطورية التجارية الصينية بالاعتراف بسلطان الإمبراطور رسمياً، ومزاولة التجارة مع الصين حسب القواعد الصينية». هذه النزعة الثقافية الصينية بمرجعياتها الكونفوشيوسية بشكل خاص، جعلت التبادلات التجارية على طريق الحرير في منأى عن أي هواجس استعمارية، وأيضاً جعلت الشعوب التي تصل إليها هذه السلعة الناعمة الراقية (الحرير) تتوجه إلى ما يمكن أن يُسمى ما وراء الحرير في الصين: الرقص مثلاً، أو الشعر أو الفلسفة، أو الحكمة، أو الموسيقى، وعند الموسيقى الصينية بشكل خاص، وسواء انتقلت مع الحرير إلى الغرب الأوروبي والشرق الأوسط وإفريقيا، أو لم تنتقل بمعنى تأثيرها في الثقافة الغربية، فإن الباحث الصيني سو شويانج، يشير إلى أن كونفوشيوس نفسه كان خبيراً في الموسيقى. يقول شويانج في كتابه «تعرّف إلى الصين»، صفحة 197 ترجمة حسان بستاني: «كانت الموسيقى من الفنون التقليدية الستة التي كان كونفوشيوس خبيراً بها، فقد اعتبر تعلمّ الموسيقى أحد العناصر المهمة المكوِّنة للتربية؛ إذ يمكن للموسيقى الإيحاء للطلاب بتحقيق معايير أخلاقية أعلى، وصقل شخصياتهم».إن من يتتبّع موسيقياً طريق الحرير، وخاصة في فرعه الجنوبي الذي يمرّ بتركيا، يلاحظ تشابهاً في «موسيقات» ذلك الإقليم من الدول، وقد لا يكون أثر الموسيقى الصينية عميقاً في هذا القوس الجغرافي، ولكن تظل الكثير من الجذور الموسيقية منتشرة على مسارات وتشعبات طريق الحرير.تشير المصادر الثقافية أيضاً إلى أن أوّل ديوان للشعر في الصين هو «كتاب الأغاني» ويعود في تأليفه إلى القرن السادس قبل الميلاد، لاحظ هنا أن أبا الفرج الأصفهاني وضع كتابه الشهير (كتاب الأغاني) في القرن الرابع الهجري.إن كتاب الأغاني الصيني هو كتاب حكمة أيضاً، وهو أيضاً كتاب تربية وسلوك وتعاليم، ليس للملوك والأمراء فقط؛ بل وأيضاً للتجار الذين يتوخون تجنّب الغش والخداع.. سواء على طريق الحرير أو على أي طريق آخر، مشدودين إلى كتابهم الحكمي الفلسفي. يقول شيون كوانج في كتابه الجميل «شيون تسي»، والذي عرّبه مستعرب صيني هو الأستاذ الدكتور وانج يويونج، وهو كتاب بعنوان فرعي دال: «بين الكنفوشيوسية والقانونية» يقول كوانج: «إذا كانت المملكة خالية من الآداب، فهي غير مقوَّمة، والآداب قادرة على تقويم المملكة، وذلك مثلما الميزان قادر على التفريق بين الخفيف والثقيل، والمطمار قادر على التمييز بين المتقوّم والملتوي، والفرجار والكوس قادران على تحديد المربّع والمدوّر. فإذا تحددت الموازين والمعايير والمقاييس، فلا أحد قادر على الغش والخداع كما ورد في كتاب الأغاني»..«كالغطاء البارد من الصقيع والثلج، كالنور الساطع من الشمس والقمر، فمن يُطبّق الطاو، يكن باقياً ومن يضيّع الطاو يكن فانياً.. لا حاكم سعيداً في المملكة المهدّدة بالخطر، ولا شعب حزيناً في المملكة الآمنة».الرسم في الصين وخاصة الرسم الكلاسيكي القديم يجري على الورق وعلى الحرير، ثم إن أول من صنع الحبر هم الصينيون، ووصلت صناعة الحبر من سمرقند إلى العرب، وبالتالي إلى مصر، وشمالي إفريقيا، وإن كان من تخمين آخر، فإن القوافل الصينية كانت تحمل معها الحبر إلى البلدان التي كانت تصلها تجارتها عبر طريق الحرير.السجاد أيضاً، سواء أكان من الصين أو من البلدان التي تمر بها طريق الحرير، هو مادة من الجماليات التشكيلية التي عرفها الغرب وشغف بها، ووصلته عبر قوافل تلك الطريق التي شهدت ازدهاراً لا مثيل له بين جغرافيات التجارة في زمن طريق الحرير الذهبي.إن العودة إلى الروح الثقافية الصينية تحديداً، وقراءة كتاب مثل كتاب الأغاني الصيني ومعاينة الجماليات التشكيلية في الفنون الصينية، والاقتراب من تاريخ البشر وتاريخ الحياة وتاريخ تلك الجغرافيا النائية.. كل ذلك يجعلنا نلمس ونرى ونسمع الحكمة الصينية.. ونحترم مرة ثانية في هذه الحضارة العريقة نأيها بنفسها عن سياسة الاحتلال والتوسع والطمع. تقول الباحثة لويز ليفاثيس، في مقدمة لأحد كتبها بعنوان: «أشباح من الحرير»: «خلال هذه السنين الثلاثين، تدفقت البضائع الأجنبية والأدوية والمعرفة الجغرافية إلى الصين بصورة لاسابق لها، وبسطت الصين مجالها في القوة والنفوذ السياسيين على المحيط الهندي بأكمله. نصف العالم كان في قبضة الصين، والنصف الآخر كان في متناول اليد بسهولة لو أرادت الصين ذلك، نظراً لقوتها البحرية الضخمة. لقد كان في وسع الصين أن تغدو القوّة الاستعمارية العظيمة قبل العصر الأوروبي العظيم في الاستكشاف والتوسع بمئة مرة.. لكن الصين لم تفعل». عطر الثقافة لم تكن طريق الحرير طريقاً برية فقط، فقد كانت أيضاً طريقاً بحرية، نقلت عطر الحرير وعطر الثقافة إلى العالم الذي أخذ يتتبع الطريق نفسها ولكن بالعكس.. من أوروبا والشرق وإفريقيا.. إلى الدولة التي يرمز فيها التنين إلى القوة والبطش، ليكتشف العالم أن هذا التنين الأحمر المرعب قد روّضه و«أنْسَنَهُ» كونفوشيوس بالقليل من الحكمة.
مشاركة :