صادف الأسبوع الماضي مرور 50 عاماً على هبوط أول إنسان على سطح كوكب القمر، حيث غيّر هذا الاستكشاف نظرة العالم إلى الكون، ووحدت هذه اللحظة المثيرة الأمة الأميركية، التي انقسمت بفعل حرب فيتنام، وعززت موقف الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي السابق في سباقهما لغزو الفضاء، وفتّقت خيال الإنسان عن إمكانية سفره في رحلات إلى الفضاء الخارجي مستقبلاً، وفي الواقع شاهد ما يقرب من 600 مليون شخص في جميع أنحاء العالم لقطات مدهشة لقفزة عملاقة لقائد الرحلة رائد الفضاء الأميركي، نيل أرمسترونغ، بعد أن وضع قدمه للمرة الأولى على سطح القمر، إيذاناً بوصول الإنسان إلى هذا الكوكب. لحظة حرجة في المرة الأولى لم يستطع أرمسترونغ الهبوط على سطح القمر لأن الغاز كاد ينفد من مركبته. كان ذلك في 20 يوليو 1969. في تلك اللحظة كانت مركبة أرمسترونغ وزميله رائد الفضاء، إدوين ألدرين، تنحدر للهبوط على سطح القمر، إلا أن الأمور بدأت تسوء. انطلق إنذار في البداية يشير إلى وجود شيء غريب في المركبة الفضائية، ثم سمعا إنذاراً آخر بعد بضع ثوانٍ من التوتر، واعتقد المهندسون في «المركز الأرضي للسيطرة على المهمة» في هيوستن أن لحظة كارثية تقترب، فقد كان جهاز كمبيوتر الهبوط على متن المركبة الفضائية يشير إلى وجود حمل زائد، قام المسؤول عن التواصل الرسمي مع كبسولة الفضاء في الأرض، المهندس تشارلز ديوك جونيور، بنقل رسالة إلى رواد الفضاء، قائلاً لهم «تابعوا»، ثم جاءت مشكلة الوقود، فعندما اقتربت الوحدة القمرية من موقع الهبوط، الذي يطلق عليه «بحر الهدوء»، رأى أرمسترونغ أنه يتعين عليه إجراء تعديل في موقع الهبوط. ففي الوقت الذي تظهر الخرائط على المركبة منطقة مسطحة، كانت هناك صخور بحجم السيارات على امتداد حقل من الحفر. واضطر أرمسترونغ إلى البحث عن مكان آخر يستطيع فيه الهبوط الآمن يدوياً، ولكن ذلك سيستنفد مزيداً من الوقود الثمين. كان التوتر في قمته بهيوستن، ظل جميع أفراد الطاقم الأرضي صامتين وكأن على رؤوسهم الطير. ويتذكر مدير مهام الطيران، جيري غريفين، في إحدى المقابلات الصحافية: «بإمكانك سماع صوت دبوس يسقط» في غرفة يوجد بها نحو 100 شخص. وأصغى مراقبو المهمة لكلمات ألدرين وهو يتحدث عن سرعة ومدى المركبة الفضائية. وجاء الإنذار من هيوستن «تبقت 60 ثانية»، حيث يشير هذا التحذير إلى مقدار الوقت المتبقي لرواد الفضاء للإجهاض الإلزامي للهبوط بسبب نفاد الوقود. كانت المركبة الفضائية لاتزال تبعد نحو 100 قدم فوق سطح القمر. وجاء الإنذار التالي «تبقت 30 ثانية». يقول غريفين «بدا لنا أن تلك الثواني القليلة تمضي بسرعة». لحظة تاريخية أخيراً جاء صوت ألدرين عبر الراديو: «هبوط بسلاسة»، لقد لمس مسبار مثبت بإحدى أقدام وحدة التحكم، سطح القمر. همّ قليل من أفراد الطاقم في مركز التحكم على الأرض برفع قبضاتهم علامة على النشوة والظفر، إلا أن كبير مديري مهام الطيران، جين كرانز، طالب الجميع بالتزام الهدوء. لايزال هناك عمل يتعين عليه القيام به، كما أنه لم يرد إليهم تأكيد رسمي من رواد الفضاء بالهبوط النهائي. ثم جاء صوت أرمسترونغ عبر الراديو «إلى هيوستن، لقد هبط النسر»، وضجت القاعة بالهتاف والتصفيق. في تلك الليلة بهيوستن، نظر غريفين إلى نصف القمر المضيء في سماء زرقاء. ويتذكر أنه أشار إلى زميل له «لقد فعلناها»، ويضيف «هناك رجال يجلسون على هذا الشيء الذي يوجد هناك». قبل 50 عاماً، استطاعت الولايات المتحدة أن تفعل المستحيل، لقد هبط أول إنسان على سطح القمر، استغرق الأمر جهد مئات الآلاف من الناس ومليارات الدولارات، ولكن إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) حققت واحدة من الإنجازات الكبرى في تاريخ البشرية. اليوم، وفي الوقت الذي تحتفل جميع الولايات الأميركية بالذكرى السنوية لمهمة مركبة «أبولو 11» الفضائية، تفكر جميع شعوب العالم مرة أخرى في الرحلات الفضائية المقبلة، وكالات فضاء عدة تخطط لرحلات إلى القمر، البعض الآخر يبحث عن أبعد من ذلك، يريد أن يسافر إلى المريخ. القمر ملهم للإنسان منذ فجر تاريخ البشرية احتل القمر مكانة مركزية في وعينا، وعلى عكس أجسام الكواكب الأخرى، يظهر القمر أكثر من مجرد قرميد من الضوء في السماء، ويدعونا إلى التفكر فيه كعالم آخر، فقد كان مصدر أساطير لا نهائية. في إحدى الأساطير البوذية، يتم تكريم أرنب ضحّى بنفسه لإطعام كاهن جائع، حيث توضع صورته فوق سطح القمر ليراها الجميع. وكان إله القمر «خونسو»، حسب المعتقد المصري القديم، يحرس من يسافرون ليلاً. وفي الصين القديمة، يمثل القمر تجديداً للحياة. وكان الإنسان ينظر إلى القمر منذ فترة طويلة على أنه جرم سماوي مثالي، وعلاماته المظلمة تلهم الناس الأساطير وقصصاً أخرى. لكن الفحص الدقيق الذي أجراه عالم الفلك الإيطالي، جاليليو جاليلي، للقمر كشف عن عيوبه، واتخذت وجهة النظر الإنسانية منحى جديداً: إنه كائن يستحق الدراسة العلمية. التحدي هو الدافع الأساسي تقول الخبيرة في علم آثار الفضاء بجامعة فليندرز في أديليد بأستراليا، أليس جورمان: «لقد حصلنا على الفرضيات والتكهنات حول الظروف التي يكون عليها القمر، ودرجة الحرارة، وما إذا كان هناك شيء ما يعيش هناك». ومع تقدم دراسة القمر من على الأرض، انفتح الباب على فتح المزيد من الأسئلة والألغاز، وعلى الرغم من افتتان البشرية الطويل الأمد بالقمر، وتوافر الإمكانات العلمية لإرسال شخص إلى هناك، استهدفت «ناسا» الجسم الكوكبي لسبب آخر، هو التحدي، فقد انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق في صراع عالمي من أجل الهيمنة على كل شيء، وبرز الفضاء واحداً من أكثر ساحات المعارك المرئية والمرموقة في هذه المعركة الوجودية. يقول كبير المؤرخين السابقين لـ«ناسا» ومؤلف كتاب «إرث أبولو»، روجر لاونيوس: «كانت هذه حرباً لكن بوسائل أخرى»، كانت الولايات المتحدة متأخرة بالفعل في سباق الفضاء منذ أن أطلق الاتحاد السوفييتي المركبة «سبوتنيك» في عام 1957. لكن هذه الأمة التي هبطت على سطح القمر اكتسبت في ما بعد ميزة مهمة في سعيها لقيادة العالم نحو المستقبل. وهذا ما يكمن وراء خطاب الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، جون إف كينيدي، الذي دعا الأمة إلى هذه المهمة. وقال في كلمة ألقاها بجامعة رايس في هيوستن عام 1962: «لقد اخترنا الذهاب إلى القمر»، مضيفاً: «لقد اخترنا الذهاب إلى القمر في هذا العقد، ونفعل ذلك ليس لأنه سهل بل لأنه صعب». وكان عملاً صعباً، فقد ضخت واشنطن أكثر من 4% من الميزانية الفيدرالية لـ«ناسا» في السنوات الأولى من برنامج أبولو. اليوم، على سبيل المقارنة، تمثل ميزانية وكالة الفضاء نحو 0.5% من الميزانية الفيدرالية. وكلف المشروع 25 مليار دولار، ووظف 400 ألف شخص، الكثيرون منهم نادراً ما كانوا يرون عائلاتهم لأنهم ظلوا يعملون لساعات طويلة، لقي ثلاثة روّاد فضاء حتفهم عندما اندلع حريق في مركبتهم الفضائية خلال اختبار ما قبل الإطلاق، وكانوا من المفترض أن يكونوا من بين أول فريق من طاقم برنامج أبولو، ومع ذلك، وقبل انتهاء العقد، زرع أرمسترونغ وألدرين العلم الأميركي على سطح القمر. يقول محلل الفضاء ومهندس مكوك الفضاء السابق في «ناسا»، جيمس أوبرغ: «لقد كان حدثاً مقنعاً أثبت في أذهان الناس حول العالم أن السوفييت ليسوا مستقبل العالم»، لم تطالب الولايات المتحدة بملكية القمر - كان العلم رمزياً فقط - واحتفل الكثير من أفراد المجتمع الدولي بهبوط الإنسان على القمر، على أنه إنجاز إنساني جماعي. وأشاد السوفييت علناً بذلك إلى أنه «قفزة هائلة للبشرية» أيضاً، لكنهم، كما يقول أوبرغ، تعرضوا للخسارة المريرة. أول حالة وفاة خارج الكرة الأرضية شهد برنامج الفضاء السوفييتي أول حالة وفاة من نوعها حتى الآن في الفضاء عام 1971، عندما توفي روّاد الفضاء: جورجي دوبروفولسكي وفيكتور باتساييف وفلاديسلاف فولكوف، أثناء عودتهم إلى الأرض من محطة «ساليوت 1» الفضائية. وهبطت بهم المركبة هبوطاً مثالياً، لكن شعر الفريق المكلف باستعادتهم بالذهول عندما وجدوا الطاقم المكون من ثلاثة رجال يجلسون في مقاعدهم وقد فارقوا الحياة، مع ظهور بقع زرقاء داكنة على وجوههم ودماء تتساقط من آذانهم وأنوفهم. وأظهر تحقيق أن صمامات تهوية التنفس قد تعطلت، وتعرض روّاد الفضاء للاختناق، كما أدى الانخفاض في الضغط إلى تعريض الطاقم لمتاعب، وهم الروّاد الوحيدون الذين واجهوا مثل هذا المصير. لقد ماتوا في غضون ثوانٍ على بعد 168 كيلومتراً (104 أميال) من الأرض، ما يجعلهم البشر الوحيدين الذين يموتون خارج نطاق الكرة الأرضية. أول إنسان يطير في الفضاء حول الأرض كان رائد الفضاء السوفييتي، يوري أليكسييفيتش غاغارين، أول إنسان يطير في الفضاء. ودار حول الأرض على أكثر من مدار، في مركبة «فوستوك» السوفييتية، حيث استغرقت رحلته، في 12 أبريل 1961، 108 دقائق. بعد هذه الرحلة أصبح غاغارين بطلاً ثقافياً وقومياً في الاتحاد السوفييتي. وبعد أقل من سبع سنوات من مهمته في صنع التاريخ، توفي غاغارين في حادث تحطم طائرة وهو في الـ38 من عمره. وتم دفن رفاته بالكرملين في موسكو، حيث يدفن العظماء. وحتى اليوم على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على هذه الرحلة التاريخية، يتم الاحتفال برحلة غاغارين على نطاق واسع في متاحف الفضاء الروسية، مع عرض العديد من القطع الأثرية والتماثيل على شرفه، وجزء من مركبته الفضائية معروض في متحف «آر كي كي إنرجيا». جاءت رحلة غاغارين في وقت كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتنافسان على التفوق التقني في الفضاء، وأرسل الاتحاد السوفييتي بالفعل أول قمر اصطناعي أطلق عليه اسم «سبوتنيك» إلى الفضاء، في أكتوبر 1957. قبل مهمة غاغارين أرسل السوفييت رحلة تجريبية إلى الفضاء باستخدام نموذج أولي لمركبة «فوستوك» الفضائية. وخلال هذه الرحلة، أرسلوا دمية بالحجم الطبيعي تدعى إيفان إيفانوفيتش، وكلباً يدعى «زفيزدوشكا» إلى الفضاء. وبعد هذه الرحلة التجريبية، اعتبر السوفييت أن تلك السفينة ملائمة لنقل الإنسان إلى الفضاء. وُلد غاغارين، وهو الثالث من بين أربعة أطفال، في التاسع من مارس 1934، في قرية صغيرة على بعد 100 ميل من موسكو. عندما كان مراهقاً شاهد طائرة مقاتلة روسية من طراز «ياك» تهبط اضطرارياً بالقرب من منزله، ويبدو أنه تعلق بحب الطيران منذ تلك اللحظة، وعندما عُرضت عليه فرصة بعد سنوات للانضمام إلى نادي طيران، قبلها بشغف، وقام بأول رحلة فردية في عام 1955. وبعد بضع سنوات فقط قدم طلباً ليتم تعيينه وتدريبه رائد فضاء. قائد مركبة «أبولو 11» نيل أرمسترونغ يجلس في الكبسولة الفضائية. أ.ب • قبل 50 عاماً استطاعت أميركا فعل المستحيل، إذ هبط أول إنسان على سطح القمر. استغرق الأمر جهد مئات الآلاف من الناس ومليارات الدولارات، لكن «ناسا» حققت واحداً من الإنجازات الكبرى في تاريخ البشرية.ShareطباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :