من دون الولايات المتحدة، لا تستطيع بريطانيا ان تفعل شيئا مع ايران التي أظهرت مدى استعدادها للذهاب بعيدا في تحدّي المجتمع الدولي عبر احتجازها ناقلة نفط كانت تبحر في مياه الخليج. تبحث ايران عن مواجهة عسكرية ما كي تتمكن من التفاوض مع الاميركيين من موقع قوّة. تستفيد قبل كلّ شيء من وضع الرئيس دونالد ترامب الذي لا يهمّه في الوقت الحاضر سوى الانتخابات الرئاسية الاميركية خريف السنة 2020. تبدو كلّ حسابات ترامب مرتبطة بالانتخابات الرئاسية التي ستحدد ما اذا كان سيعود الى البيت الأبيض ام ينضمّ الى أولئك الرؤساء الذين لم يتمكنوا من الفوز سوى بولاية واحدة مثل جيمي كارتر او جورج بوش الاب وآخرين قبلهما. كشف احتجاز ناقلة النفط البريطانية حدود القوّة لما كان امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. لم تعد المملكة المتحدة سوى دولة عادية لا تمتلك قيادة حقيقية. انّها دولة في حال ضياع تام ما دام بوريس جونسون أصبح رئيسا للوزراء. يا لها من مهزلة ليس بعدها مهزلة ان يكون رئيس الوزراء البريطاني في مقدّم السياسيين المحرّضين على خروج بلده من الاتحاد الاوروبي قبل ان يكتشف ان مثل هذا الخروج ليس سوى خطوة على طريق تكريس تهميش الدور البريطاني اكثر مما هو مهمّش. احتجزت ايران، بعد عرض عضلاتها في الخليج، ناقلة النفط البريطانية. ارادت بكل بساطة الردّ على العقوبات الاميركية والأوروبية التي لا تستهدف ايران فقط، بل تشمل النظام السوري أيضا. في نهاية المطاف، ان الناقلة التي تحمل نفطا إيرانيا والتي احتجزت في جبل طارق، التابع لبريطانيا، كانت في طريقها الى احد الموانئ السورية لتفريغ حمولتها. من الواضح ان بريطانيا في حيرة من امرها. سقطت في امتحان الردّ على ايران وبات كلّ ما تستطيع عمله يعتمد على الولايات المتحدة وعلى إدارة ترامب تحديدا، وهي إدارة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها مترددة في الاقدام على توجيه ضربة الى ايران وتفضّل في الوقت الراهن العمل في اتجاهين. الاوّل زيادة العقوبات على "الجمهورية الإسلامية" وادواتها والآخر تشكيل تحالف دولي يتولّى مهمة الرد على ايران التي يتبيّن يوميا ان العقوبات اثّرت عليها كثيرا. يبدو جليّا ان اميركا لا تريد الدخول في صدام عسكري مع ايران من دون تحالف دولي على غرار ذلك الذي تشكّل بعد المغامرة العراقية المجنونة في الكويت صيف العام 1990. انتظرت اميركا اشهرا عدّة لتشكيل هذا التحالف الذي اخرج الاحتلال العراقي من الكويت في شباط – فبراير 1991. وجدت بريطانيا نفسها وسط معمعة لا علاقة لها بها، أصلا، من قريب او بعيد. فبريطانيا لم تسرّ في السياسة الاميركية الجديدة التي اتبعتها إدارة ترامب والتي كان من معالمها تمزيق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني الموقع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في مثل هذه الايّام من العام 2015. على الرغم من ذلك، لم يكن في استطاعتها الامتناع عن احتجاز ناقلة النفط الايرانية التي تحمل نفطا مرسلا الى سوريا لدى عبورها مضيق جبل طارق من جهة ولا تستطيع من جهة أخرى الردّ على ما قامت به ايران في الخليج. هذا يعني، بكلّ بساطة ان الحرب الاميركية – الايرانية طالت بريطانيا التي كان في ودّها البقاء خارجها. يبدو انّ هذه الحرب ستستمرّ طويلا ما دامت الولايات المتحدة مصرّة على تركيع ايران اقتصاديا. في المقابل، لا يبدو انّ امام "الجمهورية الإسلامية" خيارات كثيرة، غير التصعيد، ما دامت لا تمتلك قيادة قادرة على الاعتراف بانّ الاعتراف بالخسارة ليس عيبا. على العكس من ذلك، يمكن لمثل هذا الاعتراف ان يكون منطلقا لمراجعة الذات والبحث عن سياسة، جديدة وناجحة في آن، تقوم على الالتفات الى الداخل الايراني والاهتمام برفاه المواطن الايراني بدل متابعة عملية الهروب الى خارج. وجدت بريطانيا نفسها في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل. ليس السؤال ما الذي ستفعله لندن بمقدار ما انّ السؤال ما الذي ستفعله واشنطن التي لا تبدو متحمّسة لصدام عسكري مع ايران. تفضل ادارة ترامب الحرب الاقتصادية، حرب العقوبات على ايران وادواتها من ميلشيات مذهبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. اكثر من ذلك، تبدو اميركا جاهزة لملاحقة الأدوات الايرانية في كلّ مكان، بما في ذلك اميركا والوسطى والجنوبية. لا يمكن باي شكل الاستخفاف بالموقف الأخير لدولة مثل الارجنتين اعتبرت "حزب الله" بمثابة "منظمة إرهابية". ليست هناك عقوبات على ايران فقط. هناك فتح لملفّات قديمة من بينها تفجير مركز يهودي في بوينس ايرس في العام 1994 وملاحقة من يعتبرون مسؤولين عن هذه العملية. يكمن الفارق بين اميركا وبريطانيا في ان لدى الولايات المتحدة القدرة على الانتظار. فوق ذلك، تمتلك واشنطن القدرة على توسيع الحرب التي تشنّها على ايران وتطويرها. يدلّ على ذلك ما يدور في العراق الذي يشهد حاليا مواجهة غير مباشرة بين "الجمهورية الإسلامية" والولايات المتحدة. تتخذ هذه المواجهة طابعا عسكريا بين حين وآخر، وهو طابع لا يبدو ان إسرائيل بعيدة عنه. حشرت ايران نفسها في خيار التصعيد العسكري. الى ايّ حد تستطيع اميركا تحمّل هذا التصعيد وممارسة لعبة الانتظار؟ يبدو ذلك السؤال الذي سيفرض نفسه في المرحلة المقبلة، وهو سؤال تعتمد الإجابة عنه الى حد كبير على الحسابات الانتخابية لدونالد ترامب الذي اطلق حملته منذ ما يزيد على شهر من فلوريدا. الى الان، مارست إدارة ترامب لعبة الانتظار. لم تردّ مباشرة على اسقاط صاروخ ايراني لطائرة التجسس الاميركية الأكثر تطورا، وهي طائرة من دون طيّار يزيد ثمنها على مئة وثلاثين مليون دولار ولا تمتلك القوات الاميركية سوى عدد قليل منها. الأكيد ان الإصرار الايراني على التصعيد ستكون له نتائج وخيمة في مرحلة معيّنة، اللهمّ الّا اذا تبيّن انّ إدارة ترامب ليست سوى نمر من ورق. وهذا ما يبدو مستبعدا اذا اخذنا في الاعتبار انّها لم تكتف بزيادة العقوبات على ايران وتوسيعها، بل باشرت بإرسال جنود الى المنطقة. سيضاف هؤلاء الجنود الذين ارسلوا الى المملكة العربية السعودية وعددهم نحو 500 الى آخرين موجودين في العراق وفي سوريا، الى حدّ ما. الأكيد أيضا انّ بريطانيا وجدت نفسها وسط معركة كانت تفضّل التفرّج عليها من بعيد، خصوصا انها تعاني من ازمة سياسية داخلية لا تحسد عليها بعد ارتكاب خطيئة استفتاء الخروج من الاتحاد الاوروبي (بركسيت)، وهو خروج غير قادرة عليه مثلما انّها غير قادرة على مواجهة ردود الفعل الايرانية.
مشاركة :