في هذا الحوار مع سعدون نتعرف على رحلته من العراق لإسبانيا ونلقي الضوء على تجربته وما قدمه من أعمال. بداية وحول الانطلاق من العراق إلى إسبانيا والاستقرار بها دون غيرها قال سعدون “كل يوم أؤمن تماما بالأقدار والحظوظ وما كان يقوله أجدادنا عن المكتوب. نعم درست الأدب واللغة الإسبانية ولكنني لم أكن أعرف أنني سأصل إسبانيا وأدرس فيها وأعيش وأكون حياتي فيها ومن المؤكد أنني سأموت فيها. عن طريق صديق لشقيقي الأكبر كان أن حصل لي على قبول لدراسة الدكتوراه، وعبر هذا القبول حصلت على سمة دخول إلى إسبانيا. مررت بعمان الأردن مرورا سريعا ولم أتأخر حتى وصلت لمدريد نهاية عام 93 عشية أعياد الميلاد. منذ ذلك التاريخ لم أفارق مدريد مدينتي الثانية بعد بغداد، أسافر وأتنقل كثيرا ولكنني أعود لها وكأن مغنطيسا يشدني لها شدا”. ثورة ثقافية المشهد الإبداعي والثقافي العراقي قبل خروجه من العراق والمشهد الآن رآه “كان ولا يزال متخما بالأسماء والأجيال المتفردة. الحق أنني بخروجي في تلك الفترة، لم تكن هناك حرية في كل شيء ولا مجالات أوسع للتعبير، فكله كان يمر عبر رقابة الدكتاتورية وتسلطها في كافة المجالات. لذا كان من الصعب أن تعثر على نص حقيقي وصريح إلا ما ندر. مع ذلك كان الكاتب العراقي مهموما ‘على الرغم من الصعوبات’ بكل ما يحيطه من تاريخ وحقائق وظروف وترك لنا ذلك في صفحات قليلة ولكنها مؤثرة وقيمة. أما اليوم فالمشهد مختلف، أسماء أكثر وأصوات أكبر بجدارة التناول والتفرد. الفارق على الرغم من عدم استقرار العراق الاجتماعي والسياسي ‘وربما بسببه’ نرى كثرة الاتجاهات الفنية وتعددها، زخم الأسماء وتميزها، من ناحية الفن والآداب فالعراق ثورة ثقافية كبيرة في كل المجالات، الموضوعة والحرية والاتساع في كل شيء يخدم المثقف أن يجد ما يبتغيه ويبدع فيه”. إبداعيا بدأ سعدون كتابة الشعر والقصة في آن واحد، حتى على مستوى النشر وإن اختلفت الطريقة، أشار “كتبت في الإثنين بآن واحد دون فهم للعملية أو فصل بينهما. مثل كل عراقي أردت أن أكون شاعرا، كما أن القصة كانت تشدني بتأثير أسماء قليلة من الداخل ومن أدب أميركا اللاتينية من الخارج حتى أن أغلب نصوصي الأولى تجدها واضحة التأثر بهذا وذاك من الكتاب المعروفين، لكنني مع ذلك لم أنشر سوى نص شعري واحد ومررته بوصفه نصا مترجما بعملية تحايل وانتحال مقصودة. أما القصة فنشر لي نص في مجلة الأقلام العريقة ضمن ملف عن القصة العراقية الجديدة بتقديم الناقد الكبير د.حاتم الصكر. وأصدقك القول إنني حتى اليوم لا أعرف كيف ومنْ أوصل نصي، فأنا لم أرسله ولم أتجرأ على إرسال نص لي لأي مجلة عراقية آنذاك، وربما كان بفعل صديق قرأه واحتفظ بنسخة من تلك القصة المسماة ‘الولد والبنت فوق الطين’، كان ذلك عام 1991. غير ذلك كل ما كتبته ونشرته من شعر وقصة ورواية وترجمات تم أثناء وجودي في مدريد، بل أن أول كتاب منشور لي وهو مجموعة قصصية ‘اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر’ صدر نهاية عام 1996.الكاتب متعدد الأوجه أكد سعدون أن جمعه بين التدريس الأكاديمي وكتابة الشعر والقصة القصيرة والرواية والترجمة، يثري تجربته في تكاملها وأضاف “صدقني أنا شخصيا أستمتع بكل فقرة من فقرات حياتي الثقافية وتنوعها، ولا أجدها سلبية الواحدة على الأخرى. حتما أن بعضها أكثر بروزا من غيرها، وهذا شيء طبيعي، لكنني أجدني في كل واحدة منها بنفس الدرجة من الشغف والعمل والتفاني. لو عدنا للوراء لرأينا أن كل هذا شيء عادي في تراثنا العربي وهو أن يجمع الأديب أكثر من صفة ومنحى في علومه وكتاباته ولا غرابة فيه إطلاقا. الشيء السلبي الوحيد فيه كل عوالمي هو مرور الوقت وأنت تشعر بأنك لم تنجز بعد كل ما تريد”. ولفت سعدون إلى أنه تعلم من الحكواتية والأساطير والحكايات الشعبية الكثير، وقال عن مصادرها “بيئة طفولتي الشعبية، ناسها وأحياؤها وتراثها، ينجمع فيه إرثي الشخصي والعائلي الذي يعود إلى ‘أور’ الجنوب العراقي. ثم يأتي دور الكتب وشغفي بالحكاية الشعبية وعلومها، وهو ما جعلني أقوم بدراسة أكاديمية ثانية إضافة إلى اللغة والأدب الإسباني وهي التركيز على الآداب الشعبية العراقية خاصة الشعر الشعبي والحكاية الشعبية، والتي أنجزت منها دراسات كثيرة وترجمات للإسبانية، أقوم بين حين وآخر بكتابة الدراسات والترجمات التي تخص المسألة. لهذا أقول إن التعلم كان في الأساس من الحكايات الشعبية والأساطير ليست العراقية والعربية بل والعالمية أيضا”. بين عالمينحول تأثير سيرته الذاتية تلك المرتبطة بالطفولة، الشباب، العراق، إسبانيا.. على إبداعاته الشعرية والسردية تساءل سعدون: منْ منا لا يكتب سيرته أو جزءا ونتفا منها في كل كتاب يصدره؟ وأضاف “أنا أعترف بأنني موجود ولو بصورة غير مباشرة في كل ما كتبت وأكتب اليوم. من الصعب على الواحد فينا أن يكتب من خارج منظومته، وعوالمي هي المحددة بنوعية كتاباتي. الصحيح إن أغلب نصوصي تتخذ من إسبانيا ‘مدريد تحديدا’ منطلقا لها ومسرحا لتطور أحداثها، ولكنها رؤية جزئية للمنظر لأن كل ما يجيء له علاقة ببغداد وناسي وعوالمي العراقية. هناك تداخل ما بين العالمين والشخوص ومصادر الحكي، حتى أنني في قصة مثل ‘بلد متنقل’ ألعب على هذه الرؤية الضبابية عندما يجد شخص مثلي يعيش في مدريد وقد انتقلت عوالم طفولته وشبابه في غمضة عين، لتحل بغداد في وسط مدريد. وهنا أعيد ما قلته في مناسبة سابقة من يعيش في منفاه اختياريا أو إجباريا سيظل مقيدا بهذه الصفة ولا يجد نفسه في عالمه الأول ولا في عالمه الجديد، سيكون في عالم البين بين، ابن لهذا وذاك دون أن يجد نفسه القلقة في مكان واحد ثابت”. وأوضح سعدون في ما يتعلق بسطوة أخبار ترجماته على أعماله الإبداعية “الصدق أنني لا أشتكي من هذا، فالنقد والصحافة أنصفاني ومازالا مع كل إصدار جديد. كما أن هناك دراسات عديدة أكاديمية وغيرها تناولت كتاباتي بالبحث والتقييم، يضاف لها ما يرد من نصوص لي في الأنطولوجيات العراقية والعربية والعالمية. أعرف أننا كلنا في شوق أن نكون في بقعة الضوء، ولكنها بقعة ضيقة، وليست دائما منصفة ومحقة بتقديرها. أدعي أن أعمالي الأدبية تلقاها القراء والنقاد بكرم ومحبة وهذا شيء مجز لي ودافع للاستمرار”. أما عن تأثير ترجماته الشعرية خاصة على تجربته الشعرية رؤية وتشكيلا بشكل خاص، رأى سعدون أن “كل ترجمة وهي قراءة بحد ذاتها إضافة وتشكيل للوعي وللتجربة الأدبية شعرية أو غير شعرية. كل اختياراتي من ترجمات الشعر طوعية وبمحبة القارئ وتذوقه. عليه لا بد وأن تصب بشكل كبير ومؤثر وإن بصورة غير مباشرة في أغلب نتاجي الشعري. ليس سرا أن أقول إن شعرية القرن الماضي الإسبانية والأميركية لاتينية قد أحدثت تحولا في كتاباتي وهذا ما وجده أكثر من ناقد وقارئ لشعري بمقارنة نماذج لي مع عوالم أنطونيو ماتشادو وآخرين غيره”. تجربة ألواح أكد سعدون أن “مجلة وإصدارات ألواح التي استمرت من 1997 حتى 2007 سدت فراغا كبيرا في منجز ثقافة المهجر والمنفى العراقي بوجه خاص. لم نكن نتقصد الإعلانية ولا النجومية بقدر ما كنا نبحث عبرها عن نقطة لقاء لأصوات متناثرة كي تجد لنفسها قاعدة، وتمعن وتواصل ليس مع العربي والعراقي فقط بل مع الأوروبي عامة والإسبان على وجه الخصوص. كل تجربة تكمل بعضها البعض، وحاولنا عبر ألواح أن نشكل ضلعا من مجهود ثقافي ضخم، وأصدقك القول إننا كنا صادقين في التعامل وبذلنا جهدنا أن تكون مغايرة متنوعة ومحايدة بنظرتها للنص الحقيقي بعيدا عن الضوضاء والتناحر. السؤال الآن هو هل وفقنا بكل ذلك؟ التجربة أنجزت والمجلة موجودة لمن يرغب بدراستها وتحليلها ونقدها! وأشار إلى أن كل تأسيس لمجلة ومركز ثقافي عربي في الغرب “نافع بحد ذاته حتى لو استطاع أن يستغل نسبة معقولة متاحة له. ولكن العيب عادة يقع على الكادر الإداري للعديد من المؤسسات الثقافية العربية في أوروبا والغرب، أو على سياسات دولها، لأنها تنظر للحالة كونها ملكا خاصا ونقاط نظرها لا تتعدى محليتها. أما المشاريع الخاصة والشخصية فجهدها برأيي أكبر بكثير. أما النماذج فعديدة دون تعداد لها بدءا من مظاهر حركات بدايات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ولعل أنصع نماذجها يكمن في ما أنجزته وتنجزه مجاميع المنفيين والمهاجرين من العرب في الغرب بشكل يفوق منجز دولها نفسها، ولو ألقينا نظرة على منجز المنفى العراقي منذ السبعينات من القرن الماضي لحد اليوم لوجدنا الإجابة ناصعة ومباشرة”. شدد سعدون على أن “وجود المثقف العربي بين الأوروبيين دون إحداث أي رد فعل وتجاوب واحتكاك وتبادل خبرة أراه مخزيا ومشينا وبلا نفع. أنا أتصور أن المثقف نوع من القنطرة ما بين ثقافتين، لو شاء أن يبقى متقوقعا في ضفته فالأجدى أن يبحث عن خيط آخر أو أن يرجع لبلده. إن أي استضافة او مشاركة هي بحد ذاتها تذكير بثقافتك الخاصة وثقافة بلدك وثقافتك العربية والمشرقية عموما، لأن تسليط أي ضوء معناه تنبيه الآخر على تواجدك وعلى ميزة هذا التواجد والتفاعل. الحق أن هناك أشخاصا فاعلين يؤدون دورا مهما بالالتقاء بثقافة الآخر أكثر بكثير من مؤسسات كاملة، وهناك مؤسسات جيدة تؤدي دورها وهي قلة إزاء المؤسسات والمراكز الثقافية الأخرى التي لا تشكل سوى واجهة واسم بلا فعالية حقيقية، لكن الحق يقال لا يزال أمامنا جهد ووقت كبير للوصول لتفاعل حقيقي ومؤثر، ولا ضير لو بدأنا من الصفر على شرط أن تكون بداية مشعة ومحركة للوسط وللمثقف من الجهتين”. وحول دوره الفاعل والنشط في مقابل أدوار نظرائه من المثقفين العرب في الغرب قال سعدون “ليست هناك قاعدة يمكن الاستناد عليها في هذا الشأن، ولا إحصائية تامة يمكن الاسترشاد بها. والحق أن كل ما ينجز يعد ناقصا، ولكنه إنجاز فردي مدهش وقوي القاعدة. يجب ألا ننسى أن كل هذه الإنجازات فردية وتحتمل المزاجية والهدف الأوحد، ولكن مجموعها يشكل تلك الجماعة ‘غير المنتظمة في هيكل موحد’ والتي تلعب دورها المهم. دوري الصغير في كل هذا يضاف للأدوار المهمة الكبيرة الأخرى، وكل الغاية أن نصل بما نراه ونتوق له للمثقف الآخر، وأن ننقل ما يراه الآخر عنا. لست مع التعميم إطلاقا، ولكن كل ما ينجز يجب أن ينظر له بإيجابية وتفاعل جدير بها”.
مشاركة :