تعدّ خيمة "مسرح التحرير" أحد أبرز الأعمدة الفكرية والفنية التي أسّست لمسرح قريب من العراقيين الأحرار، والملتزمة بالدفاع عن طريق الفن الرابع، عن انتفاضة أكتوبر 2019، وأهدافها الرئيسية، والتذكير بقيم إنسانية كاد يفقدها المجتمع. لم تكن الفنون على اختلافها شاهدا سلبيا على انتفاضة العراق وصراخ شعبها في وجه الظلم والفساد والاستبداد، بل سارع المثقفون العراقيون المؤثرون في مجالات مختلفة إلى إثبات حضورهم في ساحة التحرير وتأكيد دورهم التثقيفي والتغييري ضمن مجريات الأحداث. وخيمة “مسرح التحرير”، هي من هذه الفضاءات التي عرفت نشأتها مع اتخاذ أربعة مسرحيين عراقيين، هم: السينوغراف علي محمود السوداني والمخرجان المسرحيان باسل الطيب وكحيل خالد وتحرير الأسدي، مكانا ضمن المحتجين علّهم يلتقون فيه مع عشاق المسرح في جلسات نقاشية حول الوضع العراقي والمبادرات الممكنة لحلّ أزماته الداخلية. ثمّ تطوّرت المبادرة لتصبح خيمة، نصبها عشاق الفن الرابع بعد جمع التبرعات، ثم حالفهم الحظ أن كان لهم “تكتك” من بين مجموعة العربات الصغيرة التي رافقت إيجابيا ثورة امتدّت لأشهر وها هي تعود مجددا. ومن فضاء مختص بالمسرح، يرتاده جمهور من أصدقاء المسرحيين، كبر الحلم تدريجيا وصارت الخيمة فضاء متكاملا يوفّر للمحتجين متنفسا فنيا عبر العروض المسرحية اليومية والورشات التكوينية والمسابقات المسرحية واللقاءات النادرة مع نجوم عالم التمثيل. يقول المسرحي كحيل خالد، وهو أحد أصحاب المبادرة، في تصريح لـ”العرب”، “إنّ العروض المسرحية الملتزمة كانت بمثابة مفاجأة وصدمة للجمهور العراقي المنتفض في ساحة التحرير، ذلك الجمهور الذي اعتاد على العروض التجارية الجماهيرية، فصدم بنوعية عروض مسرحية تغوص في أعماق الذات البشرية وأزماتها التي عانت منها لسنوات، أزمات جعلت كل همّه ينصبّ على الاقتصاد والسياسة والمشاكل الاجتماعية متناسيا أهمية الفعل الثقافي في بناء الشعوب والأوطان”. وأضاف “كان الجمهور في نهاية كل عرض يهتف بالروح بالدم نفديك يا عراق”، الأمر الذي أجّج انتماءه لوطنه، وهو العراقي الذي عاصر بعضا من الأحداث التي تردد فيها هذا القول على أرض الواقع، حتى أنه هاجر هربا من شبح الموت الذي حرم عراقيين كثرا من وطنهم. ولم ينس الرُباعي المشرف على “مسرح التحرير” أبناء وطنه من المبدعين الذين بلغ صيتهم مسارح العالم الكبرى، بل كرّمت خيمة مسرح التحرير كلّ الأعمال المسرحية القيّمة والمسرحيين العراقيين الذين توّجوا خارج بلاد الرافدين في مهرجانات عريقة مثل أيام قرطاج المسرحية، وذلك للتعريف بهم بين الشباب الفضولي. ويحكي كحيل خالد عن بداية هذه التجربة “كان مستوى الخطاب المسرحي عاليا جدا، حتى أنه خلق فجوة بين المسرحيين والشباب المشارك في الانتفاضة، هناك فارق كبير بين المستوى الفكري للعراقي سابقا وعراقي اليوم، حتى أننا قرّرنا مع الضيف الثاني أن يكون موضوع حلقة النقاش ملتزما بالحديث عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العراقي، وبلغة مسرحية بسيطة”. ومن هناك باتت خيمة مسرح التحرير فرصة وتمرينا لأعضاء الفريق المسرحي المشرف عليها، لدراسة خصائص جمهورهم المحبّ للمسرح والراغب في اكتشافهم حيث يعتبر جزءا مؤثرا في الانتفاضة العراقية، وكذلك لاكتشاف مواقفه ونمط تفكيره السائد ورؤيته للقضايا الكبرى، بل مكنتهم اللقاءات المباشرة والدورية من دراسة انفعالات هذا الجمهور وتفاعله مع العروض المسرحية وفكّ شيفرة ذائقته الفنيّة. وفي هذا السياق، يوضّح كحيل “جمهور الخيمة لم يكتف فقط بحضور العروض المسرحية ومواكبة الحلقات النقاشية بل بادر أيضا بالمشاركة في ورشات تكوينية لتأطير ممثلين مسرحيين هواة، وتطوير موهبتهم من على مسرح خيمة التحرير، وتوّجت هذه الورشات بعد ساعات من الجهد والتعلّم بإنتاج أعمال مسرحية مقتبسة من رحم معاناة العراقي اليومية، عُرضت جميعها أمام المنتفضين في ساحة التحرير، وتوّج فيها الطلبة المتفوقون، بتصويت من الجمهور. ومن يتأمل في تاريخ المسرح العراقي، قد يجد وجه شبه بين خيمة مسرح التحرير والنوادي والتجمعات المسرحية التي ظهرت في العراق بعد الاحتلال البريطاني وتحديدا خلال الفترة التي سبقت 1921، متسترة بالنشاطات الاجتماعية والثقافية العامة. لكنها في جوهرها كانت تعمل من أجل إذكاء الروح الوطنية وتأجيجها ضد المحتل، فقد لعبت تلك النوادي دورا في إنعاش النشاط المسرحي، الذي اتخذته سلاحا في جهادها ضد الغزاة الإنجليز، وكانت خيمة التحرير دافعة همم الشباب العراقي للالتزام بمطالب الانتفاضة وعلى رأسها استقلال العراق عن أي نفوذ خارجي والتفكير في سبل ناجحة لبناء عراق مستقرّ آمن يُراهن على كفاءة أبنائه في كافة المجالات. وحلّت أزمة كورونا، التي جمّدت الحراك الثقافي الطبيعي في دول العالم، حتى أنها ساهمت في توقّف جزئي للاحتجاجات العراقية وفرض الحظر على روّاد خيمة مسرح التحرير أن يهجروها في انتظار عودة قريبة، ورغم المحاولات الجزئية لإقامة ورشة أو اثنتين في المسرح إلّا أن الوضع العام لم يسمح باستمرار المبادرة التي تعتبر ناجحة في جمع شمل عدد كبير من محبي الفن الرابع وجذب انتباه محبين جدد والتأثير فيهم بما يجعلهم شغوفين بأب الفنون. وعن هذه الخطوة إلى الوراء أعرب كحيل خالد في ختام تصريحه لـ”العرب” عن أمله في أن يكبر حلم الخيمة ليصبح مؤسسة مسرحية تحيي ثقافة ارتياد المسارح ومواكبة الفعاليات الفنية بطقوس مميزة بين العراقيين.
مشاركة :