ما إن تدخل إلى مدينة أصيلة في مثل هذه الأيام الصيفية، ستشاهد بأم العين كيف تحولت هذه الحاضرة الهادئة والبسيطة في شمال المغرب إلى مدينة للثقافة والفنون، عبر المجسمات الفنية في شوارعها وساحاتها، والجداريات المرتسمة ألواناً وحكايات في أحيائها، وحدائقها التي سُميت بأسماء مبدعين كبار قصدوا موسمها الثقافي الدولي المستمر منذ 41 عاماً ولا يزال يتجدد في رؤاه وبرامجه عاماً بعد عام. ففي تقليد دأبت عليه منذ انطلاقة الموسم عام 1978، جعلت مؤسسة منتدى أصيلة من الفنون التشكيلية رسماً ونحتاً عنواناً لتلك الولادة، حيث توافد إليها الفنانون من بلدان عدة ليرسموا جدارياتهم في منطقتها القديمة، ولينخرط كل واحد منهم إلى جانب زملاء له من أقطار عربية وأجنبية في ورشته الخاصة، وينفذ فيها أفكاره بحرية على القماش أو عبر المنحوتات، والمشغولات الأخرى. موسم حافل كان الموسم الحادي والأربعون الذي اختتم أخيراً، حافلاً بفنون التشكيل ابتداءً بالجداريات التي تشكل فاتحة الموسم كل عام، والتي انطبعت على جدران الشارع الطويل المؤدي إلى المنطقة القديمة، والتي يشرف عليها الفنانان المغربيان محمد عنزاوي وسناء السرغيني عيدة، مروراً بمشاغل الصباغة في حدائق قصر الثقافة، التي يشرف عليها الفنان محمد عنزاوي، والتي ضمت هذ العام 14 فناناً من المغرب والبحرين، والأرجنتين وفرنسا وكوت ديفوار (ساحل العاج) والعراق. التقاء الأجيال وفي مشاغل الحفر والصباغة المقامة في قصر الثقافة، تحت إشراف الفنانتين المغربيتين مليكة أكزناي وسناء السرغيني عيدة، شارك 8 فنانين من المغرب، الأرجنتين، تونس، اليابان، إسبانيا، إيطاليا. وإلى هؤلاء الفنانين المحترفين، كان للأطفال من طلبة المدارس في أصيلة حضورهم البهي من حيث الأفكار الخلاقة في «مشغل مواهب الموسم»، وتوجت بمعرض للأعمال المنجزة، بينما شكلت الجدارية التي نفذها عدد منهم على سور إحدى المدارس في المنطقة القديمة دلالة أخرى على تطور المواهب والأفكار لديهم. وخلال جولتنا في المكان، تحدثت سناء السرغيني عيدة واصفةً نفسها بأنها ابنة موسم أصيلة كونها رافقته منذ انطلاقته، وطورت تجربتها الفنية في رحابه. وأضافت: «إن هذا المكان الساحر، هو متحف بكل المقاييس، ويشكل حلماً لكل فنان، وهذا العام شارك ثمانية فنانين لكل منهم مساره وتقنياته، وراح كل منهم يبدع في ركنه الخاص الذي شكّل فسحة جديدة لتقنيات أخرى لم يشتغلوا عليها سابقاً». احتفاء بالرواد وتشجيعاً للإبداع الأفريقي الذي جعلته مؤسسة منتدى أصيلة نهجاً لها منذ زيارة الشاعر والرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور إلى أصيلة عام 1982، وإطلاقها جائزة الشعر الأفريقي باسم الشاعر الراحل فيليكس تشيكايا أوتامسي من الكونغو الذي قدم إلى أصيلة للمرة الأولى عام 1980، أقيم ضمن «أسبوع أفريقيا» معرض للفنانين الأفارقة الذين شاركوا بأعمالهم في دورات موسم أصيلة منذ عام 1980 حتى 2018، وضم المعرض أعمالاً لفنانين من المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، نيجيريا، السنغال، توغو، بنين، بوركينا فاسو، جنوب أفريقيا، كوت ديفوار ، وإثيوبيا. فكرة ورسالة في المنطقة القديمة قلب الفنون بالمدينة، التقينا محمد عنزاوي المشرف على ورشة الجداريات، وحدثنا قائلاً: «في كل موسم نستضيف فنانين من مختلف القارات لتنفيذ رؤاهم على جدران المنطقة القديمة، وهذه السنة شارك في تنفيذ الجداريات 15 فناناً من المغرب وفرنسا. طبعاً، الفكرة بدأت قبل 41 عاماً، بمبادرة من رئيس جماعة أصيلة (المجلس البلدي) محمد بن عيسى والفنان التشكيلي محمد المليحي، تتمثل في إخراج الفن من القاعة إلى الشارع، ومحاولة تعريف أبناء المدينة بأهمية اللوحة والفنون التشكيلية عموماً في تربية الأجيال وتهذيبها، وباشرنا تطبيق الفكرة ببضعة فنانين من المغرب ودول أخرى. وتوالت المواسم، وبات لهذه الفكرة صداها العالمي، وصار الفنانون يتوافدون من أقطار عدة، بشغف لخوض هذه التجربة في مدينتنا. #أصيلة تفيض بالألوان وجدرانها تسرد الحكاياتhttps://t.co/9g3L54IQFL#البيان_القارئ_دائماpic.twitter.com/QvdNvW2qbi — صحيفة البيان (@AlBayanNews) ٢٨ يوليو ٢٠١٩ وعن موضوعات الجداريات وكيفية اختيارها، والرسالة التي توصلها، أوضح عنزاوي أن كل فنان يختار الفكرة التي يرغب في تنفيذها، معتبراً أن الجدارية تمنح فرصة للفنان للتواصل مع سكان الحي ونوافذه وأبوابه، أي بمعنى التقاء بين الرسم والكلام في علاقة تفاعلية خلال تنفيذ العمل الفني. وفي هذا السياق، أشار العنزاوي إلى أن خروج الأطفال من ورشات الرسم في القاعات المغلقة إلى الشارع، ومنحهم فرصة التعبير أمام الملأ، أسهم في تعزيز ثقتهم بأنفسهم، وإطلاق مواهبهم إلى حدودها القصوى. ولأن الجداريات تبقى عاماً واحداً، لتحل مكانها أعمال جديدة في العام التالي، رأى عنزاوي أن الوقت حان لإقامة موسوعة من أجزاء متتابعة تضم صوراً للجداريات والسير الذاتية للفنانين الذين نفذوها، إضافة إلى مساعديهم من طلاب الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات المغربية. وتمنى عنزاوي أن يصدر مجلد في نهاية كل موسم يوثق هذه الجداريات. واستطرد قائلاً: «رافقنا على مدى المواسم الماضية عدد من المصورين الفوتوغرافيين، الذين التقطوا صوراً لورشات الجداريات في مراحلها كافة، بحيث بات لدينا أرشيف ضخم من الصور المعبّرة لفنانين مغاربة وعرب وعالميين». تكريم الزكاني كعادتها في تكريم تجارب الرواد، ضمن فعاليات مواسمها السابقة، جاء احتفال مؤسسة منتدى أصيلة، بمسيرة أحد أساتذة الفن التشكيلي المعاصر الفنان المغربي موسى الزكاني، بمثابة لمسة وفاء لصاحب البصمة الخاصة في مجالي النحث والخزف، وتقديراً لمنجزاته الفنية الراقية، التي تجلت في إحدى صورها بجداريات أبدعها على أسوار مدينة أصيلة في البدايات الأولى لموسمها الثقافي الدولي.طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :