ليس سهلاً أن تجتمع عوامل النجاح الأساسية في برنامج ثقافي وأن يفلح في المزج بين التعريف بالضيف والتجوال في فضاء إبداعه. لكنّ برنامج «مسارات»، الذي تقدمه القناة المغربية الثانية، تمكّن من أن يجمع تلك العوامل التي ساهمت في صناعة برنامج ثقافي ناجح، حلقةً تلو أخرى. ويمكن اعتبار مقدّمته وداد بنموسى من أهمّ نقاط قوّته نظراً الى حضورها التلفزيوني الجديد في شكله ومضمونه. فالمقدّمة هنا هي أصلاً شاعرة وصاحبة «مسار» إبداعي، عرفت كيف تحلّ على المشاهدين بإطلالة أنثوية محببة أولاً، كما نجحت في أن توظّف ثقافتها وقاموسها اللغوي الذي ينمّ عن معرفة ومتابعة كبيرتين. يحكي البرنامج الذي بثته قناة «ميدي أن تي في» مشوار مبدع في مجال من المجالات الإبداعية، وكان من بين ضيوف البرنامج الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال- زاهد مدينة شفشاون الجميلة، الشاعر الوزير السابق محمد الأشعري، الفنان التشكيلي الرائد محمد المليحي الذي كانت لمروره في البرنامج نكهة خاصة تستحق التوقف عندها. تحدث المليحي في «مسارات» عن «أصيلة» بأسلوب شفاف يعبّر عن عشقه للمدينة البيضاء والزرقاء الهادئة عند المحيط والتي تبدو في الخلفية يعانق صخرها الموج، وتتلوى أزقتها الحاضنة للمقامات الصوفية العتيقة العبق. البحر والألوان والحضرة الروحانية هي العلامات التي حددت نشأة الفنان التشكيلي محمد المليحي، أحد المؤسسين الكبار للفن التشكيلي المغربي. يطوف بالشاعرة وداد- وبعيوننا- في الأحياء الخمسة للمدينة بأبوابها الخمسة متنقلاً في الحاضر، مستدعياً الماضي عبر ذاكرة يشعل أنوارها الفضاء الذي تعبره الخُطَى. يحكي الفنان المولود عام 1936، فنستمع ونسافر برفقته في رحلة ارتياد عالم الريشة والسُّند. عند مزار لالة منانة (السيدة منانة) رافقته والدته، وهناك عثرا على قلم رصاص مزركش بمختلف الألوان. ولكن عوض أن تقدمه له أعطته الى عمه، ما ترك فيه أثراً عميقاً حتى بات ينقضّ تلقائياً على كلّ قلمٍ يجده ليبدأ في الرسم على كل جدار يصادفه. ومن هنا ربما بدأ الحلم الكبير في جعل مدينة أصيلة مميزة بالجداريات الفنية العملاقة التي اشتهرت بها في العالم بأسره. روى الفنان خلال الحلقة عن علاقته بصديق طفولته محمد بن عيسى، الوزير والسفير السابق ومؤسس ملتقى أصيلة الثقافي والفكري المعروف منذ أواخر السبعينات، وكيف اتفق معه على استدعاء الفنانين الرواد المغاربة واقتراح الإبداع الجداري هذا. ولكن من أجل أن يتحقق الحلم كان لا بد من بداية لهذه المسيرة، فكانت مدرسة الفنون الجميلة في مدينة تطوان القريبة. هناك تلقى الفن وشربه من منابعه برفقة فنانين آخرين معروفين، واختط له أسلوباً خاصاً في مقاربة اللوحة ومراودة التقنية، فكان أن أختار الهندسة باللون الصارخ. في أعماله، تعلن الأشكال (الحجمية) عن نفسها قوية وكبيرة، وتتخذ كافة الملامح، مع دقة متناهية في الخط. تتابع وتوال لموجات بكل بالألوان (الصافية والداكنة)، مع تناغم هندسي قوي. وكان هذا الأسلوب هو ما يميز أعماله عن أعمال مُجَايِليه ومن جاء بعده من تشكيليين. تُعَمِّق الشاعرة وداد بنموسى آلية البوح عند ضيفها من خلال الانخراط في الهمّ الثقافي العام الذي عايشه الفنان والارهاصات الأولى لترسيخ تصور له يكون حداثياً ومنخرطاً في الهم العالمي، بما يحمل من قيم تُعلي من شأن الإنسان ومن كل ما هو إنساني الطابع والأثر. في تلك الحلقة، يتبيّن للمشاهد أنّ الفن التشكيلي ليس زينة ولا ورشة بل هو الحياة. وندرك أنّ أصيلة هي المدينة التي أرضعت ابنها المبدع هذا المفهوم. وهذا ما تناولته الجلسة الحوارية حينما استدرجت الشاعرة ضيفها للحديث عن دوره في الحركة الثقافية في المغرب (في منتصف الستينيات)، والتي اتسمت بالصراع مع المحافظين. ومن ثم دفعته الى الحديث عن دوره في تعزيز الفن التشكيلي المغربي وعن تبلور أسلوبه الفني بعد جولته في أميركا وايطاليا وإسبانيا ودول أخرى، وذلك بهدف وضع لبنة الفن التشكيلي الحقيقي في مواجهة الفن الغرائبي والفطري الذي كان سائداً تحت تأثير الحضور الغربي السابق في البلد ككلّ.
مشاركة :