مرّت موجة الحزن العارم على رحيل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وحملت معها حالة من التآلف والتوافق الواسع حول رمزيته، لكن سردية التمجيد التي سيطرت على اللحظة الحزينة، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تستمر خاصة أن البلاد مقبلة على معارك انتخابية حامية خلال أسابيع قليلة. وفي ظل التنافس الذي سيكون كبيرا وعميقا بين مشاريع متناقضة ومتصارعة وبين رغبة شخصيات في البروز، سيظل السؤال الكبير مطروحا: من يقدر على ملء مكان الرئيس الراحل، فهو رئيس غير كل الرؤساء كما أن اختيار معوّض ليس مجرد عملية انتخابية تقنية باردة، إنه أكبر من ذلك بكثير. يعترف خصوم الباجي قبل أصدقائه بأن الرجل جبل من طينة خاصة مكّنته من مرافقة الانتقال السياسي الذي عاشته تونس منذ لحظاته الأولى، فقد شغل منصب رئيس حكومة في مرحلة انتقالية دامت أشهرا ساهم خلالها في توفير المناخ الأمني والاجتماعي الذي ساعد على وضع إدارة النقاش داخل الهيئات الانتقالية أو في مستوى الفضاءات العامة لوضع أساسات الانتقال السياسي، ومع أول نتائج الانتخابات سلم الحكم للإسلاميين وانكفأ إلى حياته الخاصة لفترة. وبعد أقل من عامين عاد السبسي إلى المشهد كموحد للقوى المدنية حول مشروع استعادة الدولة التي ساهمت ظروف مختلفة في الانزلاق بها نحو الفوضى، وهي تحت حكم حركة النهضة وحلفائها في الترويكا. والمهم هنا أن الباجي لم ينقذ فقط هوية الدولة من فوضى حكم الإسلاميين الذي فتحت فيه البلاد أمام خطابات دينية حادة وموغلة في التشدد وعابرة للدول وكان يمكن أن تحول تونس إلى “أرض جهاد”، بل أنقذ الإسلاميين أنفسهم، وعلى رأسهم حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي من الانزلاق إلى حماسة التشدد وتطبيق الشريعة، وكذلك من غضب القوى المدنية ومؤسسات الدولة الفاعلة التي باتت تستعد وقتها لإيقاف العبث ولو بالقوة. لقد مكّنهم من تجاوز الانتصار لشهوة الحكم التي كانت ستقودهم إما إلى السجون في استنساخ للسيناريو المصري، أو أن يتمسكوا بالسلطة ويرفعوا السلاح لأجلها ويصعدوا إلى الجبال في سيناريو شبيه بسيناريو العشرية السوداء في الجزائر.. السبسي أنقذهم وفتح لهم باب الانسحاب المشرّف والهادئ ثم لاحقا أشركهم في السلطة وسوّق لهم خارجيا كجهة قادرة على التطوّر والاندراج في الدولة المدنية، وهو ما فتح أمامهم أبواب العلاقة مع الغرب ومع الدولة العميقة ذاتها التي كانت النهضة هدفا لحملاتها في مرحلة مبكّرة قبل أن يبدأ اختراق في الموقف من خلال تنازلات لا تتوقف من الغنوشي لتبديد الشكوك وتجاوز عقد الماضي.مرحلة التوافق التي عاشتها البلاد، كانت هدنة مؤقتة وفّرها السبسي، لمختلف الخصوم كي يتحاوروا عن قرب ويتصارعوا بالأفكار بدلا من المواجهة الميدانية والاحتشاد في الشوارع لحسم الصراع. لكن الهدنة الآن انتهت ولا أحد يعرف من سيتولى التهدئة ومن سيتخصص بامتصاص الصدمات بعد الباجي وسط مخاوف من أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة كسر عظم بين التيارات المتصارعة وبين الوجوه التي تحلم بملء الفراغ الذي خلفه رحيل آخر البورقيبيين. ولا تتوقف خلافة الباجي عند إجراء الانتخابات الرئاسية بشكل مبكر واختيار رئيس جديد، فالقصة أعمق من ذلك بكثير، فالرئاسة في نظام الحكم الذي تم تبنيه بعد الثورة ليست سوى موقع شكلي يعطى فيه للرئيس دور ثانوي يخص العلاقات الخارجية. لكن الرئيس الراحل استثمر هذا الدور الثانوي في التسويق لثورة لم يكن من قادتها، ولكنه دافع عنها وحماها ونجح في إظهار مزاياها ودلالاتها الإستراتيجية خاصة ما تعلق بالتعايش بين الإسلاميين والعلمانيين وخلو ما بعد 2011 من الانتقام والتشفّي. وقد ساهم السبسي بدور محوري في إفشال مساع لتمرير قانون العزل السياسي الذي كان سيحول روافد منظومة الحكم القديمة (الدساترة والتجمعيين) إلى جبهة صد قوية كانت ستقود البلاد إلى مواجهة متعددة الأوجه في ظل إمساكهم بمواقع التأثير القوية مثل الاقتصاد والمال والإعلام والأمن. ولعل قوة الرئيس الراحل تكمن في هذا المفصل، فكما طمأن الإسلاميين والهامش الثوري الذي يحيط بهم، فقد نجح في طمأنة مواقع النفوذ القديمة وبدا ممثلا قويا لهذه الفئة ومصالحها مثلما هو ممثل وبقوة للفئات الصاعدة ورغبتها في انتقال ديمقراطي، ونجح في كبح غلواء هذا الفريق وذاك وقاد البلاد إلى تحول هادئ وإن كان بطيئا ومرتبكا، وهذا أمر منطقي، فالجمع بين الخصوم على أرضية مشتركة أمر صعب ومعقد. وفي مقابل نظرية التجميع ولو بالحد الأدنى التي نجح في تجسيمها الباجي، فإن الساحة الحالية تتجه إلى الصدام، ويسيطر عليها خطاب الفرز بين المشاريع، لكن الأخطر هو الفرز على قاعدة المصالح الشخصية والفئوية حتى من داخل المنظومة نفسها، فاليسار بات يسارات بعد انقسام الجبهة الشعبية، والنهضة تعيش حالة انحسار ليس فقط بسبب فشلها في تمثيل جمهور الثورة، ولكن -وهذا الأهم- بسبب تسلل الصراع على المناصب إلى داخلها، وبات الفرز فيها على قاعدة الشقوق لونا ممثلا للغاضبين من القيادات التاريخية التي باتت على الهامش، ولونا مواليا للغنوشي الذي بيده التصعيد إلى البرلمان ومنح التأشيرة إلى الوظائف الكبرى للدولة في سياق سياسة اقتسام المناصب بين التحالف الحاكم والذي يعتقد على نطاق واسع أنه قد يعاد تشكيله تحت الضرورة وإن تغيرت بعض تفاصيله. لكن الصراع الأخطر، والذي لا يمكن تطويقه أو تحديد اتجاهاته المستقبلية، هو الصراع داخل المنظومة التي عرفت بولائها للسبسي، والتي خرجت من رحم حزب نداء تونس الذي تأسس كأرضية جامعة للقوى المدنية والليبرالية المنافحة عن الدولة الوطنية وقيمها. لا أحد يقدر بعد رحيل الباجي على ضبط هذه الفسيفساء وبناء شبكة تواصل مثمرة بينها تفضي إلى مرشح وحيد يكون أمينا على ما تحقق من منجزات ومدافعا قويا بوجه محاولات تغيير الهوية السياسية والحقوقية والاقتصادية لمكتسبات الدولة الوطنية. وهناك مخاوف جدية من أن شخصيات من هذه المنظومة ممن ينوون الترشح للرئاسية يمكن أن يتم استقطابهم لأداء أدوار تتناقض مع هوية هذه الجبهة التي ظهر جليا مدى قوتها وشعبيتها في جنازة الرئيس الراحل. وقد سعى الباجي قبل رحيله إلى استعادة الحزام الشعبي الذي بناه بين 2012 و2014 لمواجهة الإسلاميين وسط تخوفات من مشروع لتغيير هوية المجتمع يقوم على التأثير الاستراتيجي غير المرتبط بوقت وأشخاص. من يقدر الآن على خلق حزام لنداء تونس أو تحيا تونس (حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد) يستطيع من خلاله وقف النفوذ المتعاظم لحركة النهضة على المستوى السياسي.. تقول المؤشرات إن الشخصية المطلوب أن تنهض بهذا الدور من الصعب وجودها الآن خاصة أن البعض من قادة الشقوق التي أفرزها نداء تونس يستقوي بالنهضة للوصول إلى الواجهة، والأمر لا يتعلق فقط برئيس الحكومة، فهناك شخصيات أخرى يتم التفاوض معها لتكون واجهة لحكم توافقي جديد تكون النهضة محوره الرئيسي. انتصار مرشح جامع للقوى المدنية والعلمانية مهم رمزيا لكونه يثبت أن البلد سيحافظ على الثوابت لكن نقطة الضوء أن البلاد في حاجة إلى استثمار الشعبية الجارفة التي أظهرها رحيل الباجي لبناء محور سياسي جديد قد يبنى على شخص ما، مثل وزير الدفاع الحالي عبدالكريم الزبيدي الذي ظهرت دعوات واسعة لترشيحه للانتخابات الرئاسية كمؤتمن على التجربة المدنية، لكن لا بد من حزب أو حركة جامعة يترشح عنها، ممثلا لمشروع. كما أن الزبيدي -أو غيره- يمكن أن ينجح في مد الجسور ليكون مرشحا وطنيا ممثلا لأغلبية التونسيين، فالمهم في هذه اللحظة هو الحفاظ على مسار الوحدة الذي أرساه الباجي والاحتفاظ بالتفاؤل القائم على التجميع وليس صراع المشاريع الذي لا تقدر تونس على تحمل نتائجه في الوقت الراهن. إن انتصار مرشح جامع للقوى المدنية والعلمانية مهم رمزيا لكونه يثبت أن البلد سيحافظ على الثوابت كأرضية جامعة دون أن يمنع التعدد السياسي على الأرض، فرئيس الحكومة أو البرلمان يمكنهما أن يحافظا على التوازن ويمنعا الانزلاق مجددا إلى حكم الرجل الواحد، لكن في سياق الأفق المشترك الذي يفترض أن يدعم بالمزيد من القوانين التي تربط المستقبل بالدولة المدنية وتحول دون أي التفاف يمكن أن يحصل في المستقبل لتبدل موازين القوى. ربما يكون الباجي هو آخر البورقيبيين، لكن البورقيبية ليست هدفا في ذاتها، ولكنها وضعت لبنات مؤثرة في سياق بناء المستقبل على الجميع أن يتلاءم معها بما في ذلك جماعات الإسلام السياسي، وقد أثبتت الأوضاع السابقة أن فتاوى الاندراج في المدنية ممكنة، وعلى أعلى مستوى في حركة النهضة.
مشاركة :