حسمت حركة النهضة الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي، الجدل السياسي الذي أحاط بموقفها إزاء الانتخابات الرئاسية المُبكرة، عبر ترشيح نائب رئيسها عبدالفتاح مورو، لخوض سباق هذا الاستحقاق الانتخابي المُقرر تنظيمه في منتصف شهر سبتمبر القادم، في وقت يعتقد المتابعون للشأن التونسي أن قرار النهضة مغامرة إذا اضطرت تحت ضغوط داخلية إلى الدفع بمرشحها كضرورة ستجلب لها الكثير من المشاكل. لكنها فتحت بالمقابل، الباب على مصراعيه أمام تخوّفات مشروعة تدفع إلى استحضار تجربة إخوان مصر في الهيمنة على الدولة، من خلال التخطيط للاستحواذ على الرئاسيات الثلاث، أي رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان. ويقول المتابعون إن الغنوشي عمل ما في وسعه لتجنب تقديم مرشح من داخل النهضة لأن هذه الخطوة ستطيح بكل الشعارات القديمة عن التوافق وعدم الرغبة في احتكار السلطة. وستدفع هذه الخطوة إلى توحيد صفوف القوى المدنية في مشهد شبيه بما جرى في 2014 من دعم واسع للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وحزبه نداء تونس، ما ألحق هزيمة بالنهضة، وهو ما كان الغنوشي يتجنبه بسبب ما يقول إنه ظروف محلية ودولية غير مناسبة، أي غير قابلة بسيطرة الإسلام السياسي على أي دولة. وصادق مجلس شورى حركة النهضة خلال اجتماع صاخب تخلله تباين واضح في المواقف، والكثير من الاتهامات المُتبادلة، على قرار بترشيح عبدالفتاح مورو، نائب رئيسها، والرئيس الحالي بالنيابة لمجلس نواب الشعب (البرلمان)، لخوض غمار السباق الرئاسي القادم. وقال عماد الخميري، الناطق الرسمي باسم حركة النهضة، إن “مجلس شورى حركة النهضة صوت في ختام أعماله بأغلبية مريحة على تزكية عبدالفتاح مورو كمرشح لحركة النهضة للانتخابات الرئاسية القادمة”.ولم يُحدد عدد الأصوات التي حصل عليها عبدالفتاح مورو خلال عملية التصويت التي جرت داخل مجلس شورى الحركة، وذلك في الوقت الذي ذكرت فيه مصادر من حركة النهضة في اتصال هاتفي مع “العرب” أن عبدالفتاح مورو حصل على 98 صوتا من إجمالي أصوات أعضاء مجلس الشورى البالغ عددهم 150 عضوا. إلى ذلك، أكد عبدالكريم الهاروني، رئيس مجلس الشورى أن ترشيح مورو جاء بعد امتناع راشد الغنوشي عن الترشح لهذا الاستحقاق الرئاسي، واقتراحه تزكية عبدالفتاح مورو ليترشح باسم الحركة. وأشار الهاروني في سياق حديثه عن أبعاد ودلالات خوض حركة النهضة أول انتخابات رئاسية في تاريخها، إلى أن حركته “لن تسعى إلى التغوّل على السلطة (…) وستواصل سياسة التوافق والشراكة بعيدا عن التغول والهيمنة”. غير أن هذه الإشارة التي أراد بها الهاروني طمأنة الرأي العام في البلاد، فشلت في تحقيق أهدافها، حيث أيقظت خشية ارتفعت حدتها لدى مختلف الأطراف المدنية والحداثية من أن حركة النهضة تُخطط من وراء هذا الترشيح إلى الاستحواذ على الرئاسيات الثلاث، من خلال العودة إلى المناورات السياسية الرامية إلى المزيد من التمكين في مفاصل الدولة. ويذهب البعض من المتابعين للشأن التونسي إلى القول إن هذه الخطوة التي أقدمت عليها حركة النهضة لم تكن خارج سياق المقاربة التي تنتهجها جماعة الإخوان المسلمين، بحكم أن المنهج الذي يحكم خطاب النهضة يكاد يكرر نفسه، من خلال اجترار المصطلحات ذاتها التي طبعت خطاب الإخوان. ويرى البعض منهم أن هوس حركة النهضة بالهيمنة يعيد المشهد السياسي العام في البلاد إلى أتون التجاذبات الحادة، التي قد تفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهات مُحتدمة ستكون لها تكاليفها التي تفوق قدرة البلاد على تحمّلها. ويحكم حركة النهضة من خلال قرارها خوض الاستحقاق الرئاسي رهان صادم للهيمنة على الدولة اقترب كثيرا من الواقع الذي يمكنها من التحكم في كل مفاصل القرار ومراكز النفوذ، وذلك من خلال تمكين رئيسها الغنوشي من أن يُصبح رئيسا للبرلمان، ونائب رئيسها عبدالفتاح مورو، رئيسا للدولة، وأمينها العام، زياد العذاري رئيسا للحكومة. ويُنظر إلى هذا التخطيط بتفاصيله الصغيرة، الذي طبع الخطاب السياسي لحركة النهضة خلال الفترة القليلة الماضية، بكثير من الريبة، حتى أن النائب البرلماني، عبدالعزيز القطي، لم يتردد في القول لـ”العرب”، إن الخشية من تغلغل هذه الحركة الإخوانية في مفاصل الدولة موجودة، وهي محكومة بفكر الإخوان الذي يُشرع احتكار الحياة السياسية، لإدارة الشأن العام وفقا لضوابط ونواميس المرشد العام. واعتبر أن إعلان حركة النهضة ترشيح عبدالفتاح مورو لخوض السباق الرئاسي، في هذه المرحلة الدقيقة، يعكس مناورة سياسية تستهدف المزيد من التمكين في مفاصل الدولة، ومحاولة الحفاظ على خزانها الانتخابي للمُقايضة به عند الحاجة لإبرام الصفقات الكبرى. ولم يستبعد القطي أن تكون حركة النهضة الإسلامية تسعى من خلال هذه الخطوة إلى الدخول في مرحلة التمكين والتغوّل الذي يستدعي الصفقات الكبرى ذات الطابع الاستراتيجي، وهو “تكتيك إخواني يُعيد إلى الأذهان سيناريو الإخوان في مصر عندما رفعوا شعار مشاركة لا مغالبة في مرحلة ما، لكن سرعان ما انقلبوا على شعارهم، وسيطروا على مفاصل الدولة”. ودعا عبدالعزيز القطي، إلى ضرورة التنبه لذلك التكتيك، والحذر من أبعاده، وذلك في الوقت الذي تتحرك فيه القوى السياسية نحو إيجاد إطار واسع لمساندة وزير الدفاع الحالي، عبدالكريم الزبيدي للترشح للاستحقاق الرئاسي، لكسر حلقة المناورة الإخوانية، والحيلولة دون تمكينها من تحقيق أهدافها. ويبدو أن هذا التحرك نجح في دفع الزبيدي (69 عاما)، إلى التقدم بملف ترشحه لخوض السباق نحو قصر قرطاج الرئاسي، وذلك في خطوة أثارت الارتياح لدى غالبية القوى المدنية والحداثية التي لا تُخفي خشيتها من مناورات حركة النهضة التي تسعى إلى استنساخ تجربة إخوان مصر في العام 2012.
مشاركة :