كلما أزور موسكو هذه المدينة التي قضيت فيها ست سنوات متواصلة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي لتلقي تعليمي العالي فيها أيام الاتحاد السوفيتي عندما كانت الدولة السوفيتية توفر البعثات الدراسية لأبناء الدول النامية لإعداد كوادر وطنية لها انطلاقا من سياسية الاتحاد السوفيتي في تقديم المساعدات للدول الفقيرة ألاحظ التغير المستمر الذي تشهده موسكو، فموسكو اليوم لم تعد كما كانت أيام الاتحاد السوفيتي بعد أن كانت مدينة هادئة ساكنة تختفي فيها مظاهر الحركة بعد الساعة التاسعة مساء فهي اليوم تعج بالحركة والنشاط والحيوية على مدار الساعة مدينة لا تنام تقام فيها الاحتفالات والأنشطة والمناسبات المختلفة والفعاليات الثقافية والرياضية والفنية، وحتى مساحتها تمددت وعدد سكانها بلغ أكثر من 20 مليون نسمة بعد أن كان 8 ملايين في نهاية سبعينيات القرن الماضي. بل إن موسكو أصبحت مركزا تجاريا عالميا وتحتضن فروعا لعديد من الشركات والمؤسسات العالمية والبنوك والمراكز التجارية وشوارعها تعج بمطاعم الأكلات السريعة الأوروبية التي تعمل على مدار الساعة يؤمها الشباب من مختلف الأعمار. وبالرغم من التغيير الكبير الذي شهدته العاصمة الروسية فإنها لا تزال تجمع بين الماضي البعيد والقريب والحاضر معالمها لا تزال تشهد على حقب تاريخية عاشتها روسيا على مدار أكثر من أربعة قرون فالساحة الحمراء التي لا تزال تذكرنا بأعياد الاتحاد السوفيتي السابق مثل عيد أكتوبر وعيد العمال عندما كان قادة الحزب الشيوعي السوفيتي وأعضاء المكتب السياسي للحزب يقبلون على منصة ضريح لينين في وسط الساحة الحمراء لمشاهدة العروض العسكرية التي تمر أمامهم لتتحدث عن آخر الإنجازات الصناعية العسكرية السوفيتية تتقدمهم مجموعات من مختلف قطاعات الجيش الأحمر السوفيتي لتقديم التحية لقادة الحزب وتجديد الولاء لبلاد السوفيت وتنتهي بدخول العمال والفلاحين والمثقفين الذين يمثلون مختلف النقابات لتأكيد اتحاد العمال والفلاحين باعتبارهم القوى المحركة للاقتصاد السوفيتي. اليوم الساحة الحمراء رغم رمزيتها التاريخية تحتضن مختلف المناسبات والفعاليات والأنشطة المختلفة الموسيقية والثقافية والفنية وحتى الرياضية حيث احتضنت الساحة الحمراء مؤخرا بطولة العالم للملاكمة التي أقيمت في موسكو. وإذا كانت بعض المظاهر اختفت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي المدوي في بداية التسعينيات من القرن الماضي خلال المرحلة الانتقالية الصعبة التي عاشتها روسيا حالها حال الجمهوريات السوفيتية السابقة فإن روسيا بوتين تحاول استعادة هذه المظاهر ومنها إعادة العروض العسكرية خلال أعياد مايو التي توقفت بعد الانهيار للتأكيد على قوة روسيا العسكرية وتفوقها في بعض المجالات على الصناعة العسكرية الغربية خصوصا في المجال الصاروخي. في المقابل أصبحت العاصمة الروسية ملاذا آمنا لشباب الجمهوريات السوفيتية السابقة من الذين تقطعت بهم السبل في جمهورياتهم بعد انهيار الاتحاد فوجدوا في موسكو مكانا للاستقرار والسكن والعيش والعمل خصوصا من أبناء الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي فهؤلاء الشباب تجدهم في كل مكان في المحلات التجارية والسوبرماركت والفنادق والمطاعم وسائقي سيارات الأجرة والحافلات وفي أماكن الإنشاء والبناء والتعمير يمارسون مختلف المهن التي لا يقبل عليها الروس حتى حققت المدينة بفضلهم اكتفاء ذاتيا من العمالة خصوصا أن أغلبهم يتقن اللغة الروسية رغم ولادتهم بعد انهيار الاتحاد، ما يؤكد ارتباط هذه الجمهوريات بروسيا. وموسكو بعد ذلك أصبحت مدينة آمنة بعد أن شهدت نوعا من الانفلات الأمني وذلك بفضل الإجراءات الصارمة التي اتخذتها حكومة المدينة حيث قوات الشرطة والأمن تنتشر في مختلف المواقع والمحلات والشوارع وفي مترو الأنفاق للمحافظة على أمن واستقرار المدينة وهذا ما يلاحظه أي زائر لموسكو من اللحظة الأولى لوصوله.
مشاركة :