لأن القمر قصيّ ولا يمكن بلوغه عند الإنسان القديم، لذلك أصبح حلماً من أحلامه، والوصول إليه كان أقرب إلى المستحيل، ولذا حاول الإنسان الرحلة له في الخيال والأساطير، فكانت رحلة في أعماق الإنسان وليست في الفضاء، ومثل هذه الرحلة دليلها القمر الذي يظهر مثل سفينة في داخلنا، وكذلك يظهر في أعماق الرجال كرمزية مؤنثة تدلّه على الحب والحياة والجمال. القمر وقياس الزمن والتقويم القمري كانت كلمة (يوم) في السومرية تمثل غروب الشمس، فاليوم يبدأ من غروب الشمس ثم شروقها صباحاً ثم وصولها للغروب، ولكن الشمس لم تعطِ انطباعاً متغيراً بالوقت لأنها تشرق كاملة وتغرب كاملة، فانتبه السومريون للقمر لأنهم رأوه يتغير، فهو يبدأ هلالاً، ثم يكتمل بدراً، ثم يصبح محاقاً ويختفي ثم يعود من جديد وهكذا.. فأوحت لهم أولاً عودة القمر المتكررة بالشهر، ثم انقسم الشهر إلى قسمين، حيث لا حظوا أن اكتمال البدر يستغرق نصف شهر، وأن اختفاءه يستغرق النصف الآخر، وهكذا قسّموا الشهر إلى الأقسام الآتية: 1. الأسبوع الأول: ويبدأ من ظهور الهلال مثل خيط مقوس، وحتى يتكون نصف البدر ورأوا أن ذلك يستغرق سبعة أيام. 2. الأسبوع الثاني: ويبدأ من نصف البدر حتى اكتمال البدر وكان ذلك يستغرق (14) يوماً. 3. الأسبوع الثالث: ويبدأ من تناقص البدر حتى عودته إلى نصف البدر. 4. الأسبوع الرابع: ويبدأ من نصف البدر حتى ظهور الهلال المحاق. 5. اليومان أو الثلاثة: بين غياب القمر وظهور خيط الهلال الأول من جديد وكانوا يعتقدون أن هذه الأيام هي أيام اعتقال القمر من قبل شياطين العالم الأسفل. وهي نوع من الموت المؤقت لإعادة النشاط والحياة بقوة، من جديد، إلى القمر. وعلى المستوى الميثولوجي مثلت الفعاليات الفلكية لتقسيم الوقت، كالقمر وعدد الأسابيع وتقسيم الفصول على شكل أساطير. فإذا كان القمر يولد من أمه على شكل عجل تظهر قرونه النحيفة في السماء على شكل هلال خيطي فإنه سرعان ما يكبر ويتحول إلى ثورٍ مجنح في السماء يختطف في آخر أيامه عندما يصبح عجوزاً. أصبح التقويم القمري هو التقويم الذي يعبر عن قياس الزمن والتاريخ، بل إن كلمة (تاريخ) أصلها من (يرخ، يرح) وهو إله القمر في اللغة الأكدية وعموم اللغات السامية، وغالباً ما يبدأ الشهر بقمر جديد. وهكذا أصبح التقويم في الحضارات وعند الشعوب القديمة يعتمد أغلبه على القمر مثل التقويم البابلي والمصري والصيني والعبري والهندي والهجري. السنة القمرية الفترة التي يحتاجها القمر للدوران 12 دورة حول الأرض، كل دورة تكون شهراً قمرياً واحداً. الدورة القمرية الواحدة حول الأرض تستغرق 29.530588 يوماً (تحديداً 29 يوم و12 ساعة و44 دقيقة و2.8032 ثانية) فإن طول الشهر القمري يكون إما 29 أو 30 يوما. الإله سين (إله القمر) كان الكوكب الأعظم عند المنجمين الذي احتفظ بأهميته الفلكية والتنجيمية عند البابليين، وكانت علامات الخسوف دالةً على أشياء ذات رهبةٍ وقوة. وقد ارتبطت النساء العظيمات بالإله سين ومعبده فقد أعطيت ابنة سرجون الأكدي زوجةً له وكرست كمنجمة وعابدة له واسمها (أنخيدوأنّا). وكذلك حفيدة نرام سين بعدها بأكثر من مائة سنة كانت عازفة قيثارة في معبده، ثم صارت إحدى أخوات ملكي لارسا الأخيرين الكاهنة العظيمة لهذا الإله في أور. وعيّن(آشور بانيبال) أحد أصغر أخوته كاهناً عظيماً لمعبد القمر في حرّان. ثم أصبحت(أدد كبّي)، أم نبونائيد الملك الكلداني الأخير، كاهنة له. وقد بشّر نبونائيد بالتوحيد القمري في آخر سنوات حياته. ظهرت نصوص العرافة في وادي الرافدين التي ربطت بين القمر وحوادث المستقبل ومنها: * إذا حدث خسوف في الشهر الحادي عشر وفي اليوم الرابع عشر منه، فإن العدو سوف يستولي على جزء من بوابة المدينة، والملك سوف يخرج مع مجموعة من جيشه ولكنه سوف يندحر. وبعد موت الملك فإن البلاد سوف تحقق بعض النجاح وسوف يحل السلام. (أنظر رشيد 1968). * إذا أحاطت القمر هالة معتمة (في اليوم الأول) يكون الشهر ماطراً وملبداً بالغيوم وإن أحاطت بالشمس هالة وكانت فتحتها متجهة نحو الجنوب فإن ريحاً ستهب من الجنوب. (أنظر روثن 1980: 100-101). * إذا خسف القمر في اليوم الرابع عشر من تموز فهو نذير للملك الكوتي: سوف يسقط الكوتيون في المعركة وتتحرر البلاد. (أنظر الراوي 1985). * عندما يشاهد القمر والشمس بذات الوقت في سادس يوم من الشهر فالحرب ستعلن على الملك. عندها يحاصر الملك في قصره طيلة شهر ويقتحم العدو البلد وينتصر. وعندما لا يكون القمر مرئياً مع الشمس في اليوم 14. 15 من شهر تموز فإن الملك سيحاصر في قصره. فإذا رؤي القمر في اليوم 16 فهنيئاً لآشور وتعساً لكد وأمورو. (أنظر تاتون 1988: 121- 122). كان الصراع القمري الشمسي في الديانات القديمة صراعاً بين الألوهة المؤنثة والألوهة المذكرة، ولذلك نجد القمر يتّخذُ شكلي الأنوثة والذكورة حسب طبيعة المكان والصراع والأحداث. القمر في مصر القديمة في مصر القديمة ارتبط القمر بمعتقدات وأساطير حول الموت والبعث، وأصبح الإله أوزيريس مقارباً القمر في العالم الأسفل وحين يُبعث من الموت، وكان للقمر علاقة بالإله تحوت إله المعرفة والكتابة والأسرار، «عند مقارنة عبادة القمر مع عبادة الشمس عند قدماء المصريين، نجد عبادة القمر أقل تسجيلاً وظهوراً في الوثائق، وذلك بدءاً من الدولة القديمة، بينما تم العثور على نصوص بها معلومات أكثر في وثائق عصر الدولة الحديثة. في نصوص الأهرامات يقترن القمر بالمعبود تحوت، وفي عهد الأسرة الثامنة عشر (1550: 1307 ق.م) كان يُعرف القمر باسم إعح، وهو ما أصبح بدوره تجسيداً إلهياً، نجد ذلك في اسم الفرعون المؤسس لأسرة أحمس أنجبه إعح (إله القمر). في الحقبة نفسها نرى هناك اندماجاً بين المعبودين تحوت وإعح (القمر)، خاصة في دير المدينة، مقر عمال الفرعون، فعلاوة على عبادة خونسو، كانت توجد أيضاً عبادة تحوت - أعح، كانت الاحتفالات القمرية مرتبطة بمراحل القمر، التي كانت ولا تزال مع وضوحها وسهولة تحديدها، مؤشراً دقيقاً لمسيرة الوقت، إذ للقمر أربع أوجه أساسية: - القمر الجديد psdntyw، هو بداية الشهر. - ثم التربيع الأول snt، وهو اليوم السادس من الشهر. - ثم اكتمال القمر (البدر) smdt، وهو اليوم الخامس عشر من الشهر. - وفي النهاية التربيع الثاني dnit.» (فرانشي 2015: 41). وكان هناك روزنامة شمسية توازي الروزنامة القمرية وتتواشج معها وهي على مرحلتين. في بلاد فارس: كان القمر في الديانة الزرادشتية يمثل الظلام (أهريمان)، ويبدو لنا القمر هنا وكأنه ابن أهورا مزدا، ففي الأساطير الزرادشتية يكون هو ابن له بعد أن يتحرك ويخلق العالم ويخلق (سبيتا ماينو/ الضوء وأنجراماينو/ الظلام) والأخير بمثابة مصدر أهرمان ويعبر عنه بالقمر. وهذا يعني أن القمر وهو منير مقدس لأنه يكتسب ضوء أبيه الشمس، وهو مسكن للشياطين حين يكون معتماً وخصوصاً في الأيام الثلاثة الأخيرة من الشهر القمري حين يختطف. عند شعب المايا كان نظام تزولكين هو نظام التقويم القمري والتقويم الروحي والمقدس للمايا، وهو يحاول أن يفصح عن مارسمته المخططات الكوكبية ولكن بطرقة غير مألوفة في الشرق أو الغرب، حيث تقويمها ونظامها يعملان في إطار ثقافي مختلف تماما. يمكن أن يعني أو يشير إلى «جولة مقدسة»، إنه تقويم zol-keen أو chol-kin)نظام تزولكين أو دائم. لا يعتمد على حركة أنظمة الكواكب، بل على الطاقة غير الملموسة للكون وتطور أكبر للخلق. يعتقد شعب المايا أنه من أجل تحقيق الانسجام في حياة الفرد، الذي عليه أن يفهم نفسه وينسجم مع هذه الطاقة الكونية. إحدى ميزات بروج المايا (تزولكين) هو أنها تستند إلى دورة من 260 يومًا (وهي عدد أيام الحمل عند الإنسان)، والتي تتكون بدورها من 20 فترة لكلٍ منها 13 يومًا. وكان لكل يوم برج، وفقا لحركة الأرض اليومية، والذي يرتبط بدورة القمر، ويضفي مزيدًا من الخصائص على سمات الشخصية لكل علامة ولديه اسمه وعلامته الخاصة به، والتي تحدد كل ما يحدث في هذا الوقت. الإغريق والرومان كانت إلهة القمر الأقدم عند الإغريق هي سيلين (لونا عند الرومان) التي ظهرت في الأساطير على هيئة امرأة تركب حصاناً من جانب واحد فقط، أو تقود عربة تسيّرها الأحصنة أو الثيران المجنحة، وهي متوجة بتاج قمري أو هلالي الشكل، وقد وقعت سيلين في حب راعٍ شاب هو إنديميون، وطلبت من زيوس أن يجعله مثل الآلهة ويمنحه الشباب الأبديّ فاستجاب لطلبها، وتزوجته سيلين وأنجبت منه خمسين ابنة. أما الجيل الجديد من إلهات القمر فقد مثلنه ثلاثو من الإلهات هن (هيكاتي، آرتميس، وإيليثيا) وكانت أرتيميس الصيّادة ابنة زيوس رب الآلهة، وتسمى ديانا في الأساطير الرومانية التي هي ابنة جوبيتر. ظواهر لم يتمّ التأكد علمياً منها ربما بسبب الليل والخوف كان القمر يشحذ خيال الإنسان، وكان يدفعه لمزيد من الغوص في العالم الداخلي له حيث الغموض والألغاز، فقد ربط الإنسان مجموعة من الظواهر الطبيعية به مثل حركة المد في مياه البحار والأنهار، وتأثيره على العقول والنفوس في منتصف دورته حين يكون بدراً، وبسبب تدرج نمو حجم القمر منذ بداية ظهوره أصبحت له علاقة بنمو النباتات وبالخصوبة والزراعة، وبسبب مدته التي تعادل مدة الدورة الشهرية عند النساء صارت له علاقة بدورتهن هذه، بل وأن الولادات تزداد في مرحلته البدرية والشعر والأظافر يزداد طولها في هذه المرحلة، وانتشرت أسطورة قمر الدم حين يكون للقمر لون أحمر وربط بالدم وصار دالاً على الحرب والكراهية والعدوان.... وإلخ من الظواهر التي لم يتم تثبيتها علمياً، بل أصبحت شائعة شعبياً كنوع من العلوم المزيفة والتنجيمات غير العلمية. على المستوى النفسي والأدبي كان القمر ملهماً للشعراء والأدباء في كونه مصدر جمالٍ وشوقٍ وأسىً ولوعة ومناجاة، وهو مثير للعشاق وغرامهم ولواعجهم العشقية ومرتبط بلقاءاتهم وسمرهم، وكذلك مثير للمغنين والموسيقيين والرسامين. وقد وجد البعض أن الإنسان مثل الذئب يتحمس للقمر ونوره ويناجيه ويصرخ ومن هنا نشأت الأسطورة التي تقول إن بعض الأشخاص يتحولون إلى ذئابٍ عند اكتمال القمر بدراً، وربطت خرافات وقصص خيالة بين القمر والمستذئبين. .............................................. المراجع: 1.تاتون، رنيه: تأريخ العلوم العام (العلم القديم والوسيط)، ترجمة د.علي مقلد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت (1988). 2.الراوي، فاروق ناصر: حضارة العراق ج2، الفصل الثامن، المبحث الثالث (الرياضيات والفلك)، دار الحرية للطباعة، بغداد (1985). 3.رشيد، فوزي: نصوص إدارية من العصر السومري الحديث، مجلة سومر، المجلد 24، دائرة الآثار العامة، بغداد (1968). 4. روثن مارغريت: علوم البابلين، ترجمة د.يوسف حبى، دار الرشيد للنشر، بغداد (1980). 5.فرانشي، ماسيميليانو: الفلك في مصر القديمة، ترجمة فاطمة فوزي، المركز القومي للترجمة، القاهرة (2015).
مشاركة :