بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير ، وفي خضم الأحداث وزخم المتغيرات ، وقعت حادثة لا يمكن تغافلها إذا ما أردنا البحث في حقيقة جماعات الإسلام السياسي واستشفاف دورها التاريخي في صناعة أقفال علي عقول الناس تحيلهم دون اتخاذ قرار عقلاني في طريق ثورتهم علي وجه الخصوص وفي أمور حياتهم بشكل عام ، في ذلك الوقت وبعد خطاب التنحي كان شعارنا " الشعب أسقط النظام " حيث كنا نتطلع إلي مستقبل مشرق بتنا نرسم ملامحه البريئة في مخيلاتنا طوال الوقت ، اعتقادًا منا بتطور العقول وانتهاء جدلية الدين والسياسة التي تخطاها الغرب منذ عقود ، ولا زلنا نقف أمامها كامرأة حبلي تخاف أن تتحرك .وبعد أيام قليلة ، خاب اعتقادنا ولم نلبث أن خرج علينا التيار السلفي من جحوره الضيقة وكهوفه التي غلب عليهم النوم بداخلها فلم يعودوا يميزوا بين الدين من ناحية والنظام السياسي للدولة من ناحية أخري .لم يتحمل هؤلاء فكرة أن تتحرر عقول الشباب فخرجوا علينا فورًا بشعار غريب وهو " الله أسقط النظام " في محاولة منهم بالتحدث باسم الله وتنصيب أنفسهم نوابًا عن السماء في ميادين الأرض ، لا لشئ إلا ليسوقوا الشعب بسياط الدين الذي ابتدعوه وليغيروا وجهة الناس من دولة مدنية عصرية لدولة دينية لا تقل فاشية عن سابقتها ، ومن إرادة شعب حر لحاكمية إلهية يديرونها في مقراتهم ويعدونها علي موائدهم .فهذا القانون من الله ، وهذا الفعل لله ، وهذا الدستور إرادة الله ، وهذا وهذا إلخ ، فمن منكم يعترض علي أمر الله ؟! والحقيقة أن استخدام هذا الشعار المبهم وغيره من شعارات الإسلاميين قد مكن هذه الجماعات من حيازة ثلثي مقاعد البرلمان في نهاية المطاف ، في حين تم تهميش المفكرين وأهل العلم واستبعادهم من العملية السياسية ، وهذا هو المطلوب .. وهنا تفرض القصة علينا أن نسرد واقعة سابقة قد اتخذت نفس المنهاج في خديعة الناس ، في معركة صفين ، بين سيدنا علي ومعاوية ، كان الإمام علي كرم الله وجهه علي وشك الإنتصار ، وعندها انزعج معاوية من الخسارة المؤكدة ، فأشار عليه عمرو بن العاص بخطة خبيثة كان لها الفضل في انقلاب الموازين وتبدل الأوضاع ، وهي أن يرفع الجيش المصاحف علي أسنة الرماح وينادي :" لا حكم إلا لله " " لا حكم إلا لله " ، هذا الشعار الذي ضعف أمامه سيدنا علي وجيشه قد أمكن معاوية من السيطرة على زمام الحكم وسَوْق الناس كقطيع من الأغنام ليقتل منهم من أراد ويترك من أراد ،ولينصب ابنه خليفة رغم أنف المعترضين ، لم يكن ليفعل هذا لولا ذلك الشعار ولولا دخوله من زاوية الدين ، لكن هذا هو المطلوب ..وكلنا نعلم أن نابليون عندما احتل مصر بجيشه وأراد أن يستقر الحكم له ، ادّعي الإسلام وأخذ البيعة لنفسه من مشايخ السلطان ، وهو الذي قال بعد ذلك " لا يهمني في الدين إلا أنه دعامة للسلطة السياسية ، حتي يقبل من يموت جوعًا بجانبي أن يموت ، فهذه معجزة الدين " .ومن هنا ، أصبح الدين هو الطريق الممهد لكل من يريد السيطرة علينا ، فقط علي المغتصب أن يقول " الله يريد ذلك " ليخضع الناس له .لماذا يتم خداعنا في كل مرة ؟لماذا يموت علي ويبقي معاوية ؟ لماذا يتلاعب بنا نابليون ؟ ولماذا أعطينا تيار الإسلام السياسي حوالي ثلثي مقاعد البرلمان بعد الثورة ؟ذلك لأننا ضعفاء الفكر ، أصبحنا نرتعب من لفظ الدين بعد أن كان مصدر أمان لنا ،" إذ يخوفونك بالآخرة "، ومن هنا ، كان لابد أن نستعرض سببًا جديًا من أسباب هذا الانسياق العجيب وراء الشعارات السلطوية التي تنشدها جماعات الإسلام السياسي .وذلك السبب يتمثل في الحرب الدائرة علي المفكرين والتي بدورها تفرغ المجتمع من أنوار الفكر المتحرر وتسلمه علي طبق من فضة لنيران هؤلاء التجار ليعبثوا بمستقبل الدولة دون اعتراض يطولهم .إن هذه الجماعات تسببت عن قصد وسابق نية في قتل المفكرين وتكفير المسلمين وتهجير المخلصين من أبناء هذا الشعب ، لتروق لهم أذهان الناس وعقول العامة فيتلاعبون بها متى وكيف أرادوا ،حتي تظل الناس رهائن لهم أو ورقة مرابحة في جيوبهم ،أو مجرد أغنام في حظائرهم ، ولكن ، إلي متي ننساق وراءهم ونصبح شركاء معهم في التخلص من أصحاب الفكر ؟علي ما يبدوا أننا لم نبرح مكاننا مترًا واحدًا رغم كثرة التجارب التى تؤكد عبثية التلاعب بنا باسم الدين علي مر التاريخ ،ولن نبرح ذلك الحاضر الهزلي نحو مستقبل واعد إلا بالفكر ، عندما نتخلص من قيود العقل وبراثن الجهل التي تكتف حركاتنا عن نشر الفضيلة وتلجم ألسنتنا عن قول الحقيقة . ولا شك أن الناس أفاقت مؤخرًا من غيبوبة تلك الشعارات ، وكان لثورة الثلاثين من يونيو الدور الأكبر في كشف الأوراق المزيفة وسحب الثقة ممن يخدعون الناس باسم الدين .ولكن ما زال أمامنا التحدي الأكبر في مواصلة هذه الحروب الفكرية ، والتخلص من تلك الصنمية التي شلت أركان المجتمع لعقود طويلة ، كانت الحرب فيها تستهدف عقول المثقفين ، الآن علينا أن نستعيد الحرية لنعيد البناء ..
مشاركة :