كانت الوصية الأخيرة التي قدّمها الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي لوزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي: «لا تتخلّ عن تونس، إنها في حاجة إليك». ودعاه إلى الترشح لرئاسة البلاد، بما تعنيه مؤسسة الرئاسة من رمزية السيادة الوطنية في ثلاثة مسارات: الدفاع والعلاقات الخارجية وحماية الدستور. لم يكن السبسي يخاف على تلك المؤسسة إلا من الأيديولوجيا التي تكرّس الاصطفافات وفق عقيدة الشخص أو الجماعة لا وفق مصلحة الدولة والمجتمع، ثم من اللوبيات التي قد تفلح في تشكيل دكتاتورية على رأس الدولة لخدمة مصالحها في حال نجاحها في الدفع بمن يمثلها إلى قصر قرطاج. أما ما كان يبحث عنه الرئيس الراحل، فهو أن يترشح لخلافته، رجل توافقي قادر على تحقيق أعلى نسبة ممكنة من الإجماع حوله. يحظى بثقة الشعب. غير متورط في فساد أو في صراعات سياسية أو عقائدية. غير محسوب على أي طرف إقليمي أو دولي. زاهد في الحكم وليست له طموحات شخصية قد تجعله يطمع في البقاء في منصبه بعد انتهاء عهدته. منضبط. هادئ. ويحترم نواميس الدولة. يبدو أن السبسي قد تأمل المشهد جيدا من حوله منذ أكثر من عامين، ليس فقط من موقعه كرئيس للدولة، ولكن كشخص بلغ من العمر عتيا ويعتبر نفسه مؤتمنا على مقومات وثوابت وإرث دولة الاستقلال التي عمل في مختلف مفاصلها منذ 60 عاما، والتي تتطلب الكثير من الحنكة والحكمة والرصانة في إدارة توازناتها الداخلية وعلاقاتها الإقليمية والدولية. حتى لا تتوزع الأصوات فتذهب سدى، ولا يتشتت الناخبون في ظل الصراعات الحزبية بين أبناء الأسرة السياسية الواحدة، يأتي ترشح عبدالكريم الزبيدي ليعد على الأقل باستمرارية الوضع التوافقي على مستوى الرئاسة وعندما أدرك قرب المنية، دعا الزبيدي إلى أن يتولى هذه المهمة، خصوصا وأن البلاد لا تزال تمر بمرحلة انتقالية صعبة وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. والمسار الديمقراطي لا يزال هشّا نتيجة التجاذبات الأيديولوجية والسياسية. والوضع الإقليمي يعيش حالة إرباك تنعكس مباشرة على الواقع المحلي. والحرب على الإرهاب لم تنته بعد، وإن كانت حققت جانبا كبيرا من أهدافها. والمؤسسات القائمة داخل الدولة تحتاج إلى كثير من الثقة في رجل متزن وصاحب تجربة في التعامل معها، يتولى منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويدير ملف العلاقات الخارجية. ويحمي الدستور. و يحتكم إليه الأفرقاء عندما تحتد الخلافات بينهم. السبسي كذلك يعرف أن التونسيين في أغلبيتهم ميالون إلى الاستقرار. ويرون أن رئيس الجمهورية هو الأب والخيمة والرمز والمسؤول الأول عن الدولة، رغم أن دستور 2014 أفرز نظاما سياسيا هجينا حدّ من صلاحيات الرئيس ووزع السلطة الفعلية بين البرلمان ورئاسة الحكومة. ويريدون لمن يجلس على سدة الرئاسة في قصر قرطاج أن يملأ مكانه، وقد يكون هناك الكثيرون ممن تتوفر فيهم هذه الشروط، ينقسمون بين متحزبين وآخرين مستقلين من خارج دوائر الدولة، لكن الأفضل في حالة اليوم أن يكون المرشح مستقلا، غير متحزب، ومن داخل الدولة. أشهر قبل الآن، شهدت تونس ما سمي الزلزال عندما تم الإعلان عن نتائج استطلاعات للرأي أنجزتها أكثر من مؤسسة محلية ودولية أظهرت أن نوايا التصويت تصب في صالح شخصيات لم تكن أسماؤها مطروحة من قبل لحكم البلاد، أبرزها نبيل القروي الإعلامي صاحب قناة «نسمة» التلفزيونية، وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد القريب من قواعد الإسلام السياسي بمختلف تفرعاته مثل حركة النهضة وحزب التحرير والتيارات السلفية. وللتصدي لهذه الظاهرة تم إدخال تعديلات على القانون الانتخابي صادق عليها البرلمان ولكن الرئيس الراحل رفض ختمها بما حال دون نشرها في الجريدة الرسمية وإدخالها حيز التنفيذ. تلك التعديلات كانت تستهدف بالأساس نبيل القروي، ومعه عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر، وجمعية «عيش تونسي» لصاحبتها ألفة التراس التي قيل إنها جاءت من الخارج بتمويلات ضخمة وبدعم من زوجها رجل الأعمال الفرنسي، للحصول على نصيبها من كعكة الحكم في البلاد. لكن ما كان واضحا منذ البداية أن موسي لم تكن تعتزم الترشح للرئاسيات، والتراس ليست لها أي حظوظ في خوض السباق نحو قصر قرطاج، يبقى القروي الذي تم إقناعه بأن لا يتقدم للاستحقاق الرئاسي، وأن يكتفي بالمنافسة على البرلمان من خلال حزب «قلب تونس» الذي شكله لاحقا. إذا نظرنا إلى نتائج استطلاعات الرأي فإن قيس سعيد القريب من الإسلاميين كان يمكن أن يكون العصفور النادر الذي تحدث عنه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، كما كان يمكن أن تنقلب النتائج لفائدة الرئيس الأسبق منصف المرزوقي الذي تختلف حوله الآراء نتيجة مواقفه السابقة وارتباطه بسياسة المحاور وخاصة المحور التركي القطري الإخواني، والذي كان سيستفيد بالأساس من تشتت أصوات المدافعين عن مقومات دولة الاستقلال بنموذجها المجتمعي والدبلوماسي الذي أرساه الزعيم الحبيب بورقيبة وحاول السبسي ترميمه والمحافظة عليه بعد الهزة التي تعرض لها في ظل حكم الترويكا. ما كان يبحث عنه الرئيس الراحل، فهو أن يترشح لخلافته، رجل توافقي قادر على تحقيق أعلى نسبة ممكنة من الإجماع حوله. يحظى بثقة الشعب. غير متورط في فساد أو في صراعات سياسية أو عقائدية المترشحون للرئاسيات ممن يقولون إنهم ورثة بورقيبة والسائرون على نهجه كثر، ولكن المشكلة التي تواجههم هي حرب الزعامات التي تجعل كلا منهم يعتقد أنه الأقدر والأكفأ والأحق بخلافة السبسي، وهو ما يعني تشتت أصوات الناخبين، بما سيجعل معسكرهم يخسر كرسي الرئاسة في قرطاج. ومن بين هؤلاء رئيس الحكومة الشاب يوسف الشاهد الذي تنقسم حوله الآراء بعد ما وصفه البعض بتمرده على الرئيس الباجي الذي جاء به إلى الحكم، وتأسيسه حزب حركة تحيا تونس المنشقة في غالبها عن نداء تونس، وتحالفه مع حركة النهضة التي حاولت أن تتقاسم معه الحكم في مرحلة ما بعد الانتخابات، لأسباب موضوعية، لكنها كانت ستتجه للتخلي عنه بعد أن تبين لها أنه غير قادر على تجميع كل المشهد المدني الحداثي الذي يصفه الغنوشي بالمكون العلماني. وهناك رئيس حكومة التكنوقراط في 2014 مهدي جمعة وقد ظهر بقوة خلال الفترة الماضية من خلال حزب «البديل» الذي يعتمد بالأساس على الكفاءات الوطنية، وهو شخصية متزنة ولها علاقات واسعة محليا ودوليا، ولكنه لم يحقق توافق بقية الأحزاب السائرة في نفس مسارات حزبه. كما أن هناك زعيم حزب مشروع تونس محسن مرزوق القيادي المؤسس في نداء تونس ورئيس الحملة الانتخابية للسبسي في 2014، وزعيمة حزب الأمل سلمى اللومي التي كانت من أقرب المقربين للرئيس الراحل سواء من خلال دورها في النداء أو إدارتها للديوان الرئاسي، وناجي جلول الذي كان بدوره قريبا من السبسي ومديرا لمعهد الدراسات الاستراتيجية الملحق بمؤسسة الرئاسة، وسعيد العايدي زعيم حزب «بني وطني»، وغيرهم. وحتى لا تتوزع الأصوات فتذهب سدى، ولا يتشتت الناخبون في ظل الصراعات الحزبية بين أبناء الأسرة السياسية الواحدة، يأتي ترشح عبدالكريم الزبيدي ليعد على الأقل باستمرارية الوضع التوافقي على مستوى الرئاسة كما كان في عهد الرئيس الراحل، ليكون الصراع الحقيقي على رئاسة الحكومة وفق ما ستفرزه نتائج تشريعيات السادس من أكتوبر القادم، وهو ما أسرّ به السبسي قبل وفاته للمقربين منه، خصوصا وأن أغلب المتسابقين الفعليين من العائلة البورقيبية نحو قصر قرطاج لا يزالون في مقتبل العمر والعمل السياسي، بينما تمثل رئاسة الجمهورية وفق الدستور الحالي تتويجا لتجربة، وإعلان نهاية خدمة.
مشاركة :