سجَّل العلاَّمة الهندي وحيد الدين خان خواطره الحجازية في كتابه (حقيقـــة الحـج)، وقد ركَّز فيه على جانب يفتقده المسلمون فى كثيرٍ من الدراسات الإسلامية، ألاَ وهو جانب «الروح» أوْ «الحقيقة» ... فروح الحج، أوْ حقيقة الحج؛ هو المحور الذى يدور حوله هذا الكتاب، وما الجوانب الأخرى (كالجانب الفقهي أوْ التاريخي ...) إلاَّ وسائل هذه الروح، أوْ لعلَّها لا تزيد عن كونها عناصر من عناصر هذه الروح. ومن هذا المنطلق، ووصولاً إلى هذه الغاية، عالج (رسالة الحج) ونظر إلى هذا الركن على أنه (صانع التاريخ) وأنه (مؤسسة دعوية) و(وسيلة للوحدة) و(رحلة غير عادية) قادرة على (تجديد الإيمان). ودعا «المؤلف» إلى توظيف إسلامي للحج في سبيل تحقيق «للوحدة الدعوية والفكرية والشعورية للمسلمين» أوْ حسب تعبيره «تنظيم جديد للحج». ومن سُبُل هذا التنظيم الجديد – في رأيه – تسخير الحج كمركز للتخطيط العالمي للدعوة الإسلامية، بحيث يعرض الناس من مختلف البلاد أحوال الدعوة في بلدانهم، فيطّلع الناس على تجارب المناطق الأخرى ويستفيدون منها، ويدور الحوار حول الإمكانات الجديدة للدعوة، إذْ المعروف من دروس التاريخ أن القوة الإسلامية كانت مرتبطة بقوة الدعوة، والحج وبيت الله الحرام علامتان على خطة دعوية عظيمة، فإنما بُنيتْ الكعبة في الصحراء لتكون مركزاً دائماً للهداية الإلهية [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] «آل عمران :96». وذلك بعيداً عن شوائب الحضارات ونفايات المدنيات والفلسفات، وفى هذا العصر بالذات بعد أن فتحت الثورة العلمية إمكانات جديدة هائلة للدعوة يمكن أن تستخدم مؤتمر الحج العالمي للتخطيط للدعوة على مستوى العالم أعظم من أيّ وقت مضى، فنجعل الفكر الإسلامي هو المنهج الفكري الغالب على العالم مرة أخرى كما كان فى العصور الماضية. لكن ذلك رهن شرط ضروري، هذا الشرط هو الأساس لتحويل مؤسسة الحج - حسب تعبير المؤلف – إلى مؤسسة عالمية للدعوة الإسلامية. إنَّ هذا الشرط خلاصته (إبقاء فريضة الحج بعيدة عن السياسة بصورة كلية)، فينبغي أن ننظر إلى المسلمين الذين يجتمعون للحج من زاوية أنهم جاؤوا لأداء هذه الفريضة وحدها .. والطريق الصحيح للاستفادة من الاجتماع فى هذه الفريضة –حسب رأي المؤلف– أن نبعث فى الناس روح الدعوة كيْ يعودوا إلى بلدانهم دعاة الى دين الله بدلاً من السمسرة السياسية المغرِضة، والإثارة والثرثرة الفارغة! المعنى التاريخي للحـج عالج «المؤلف» معنى من أدق المعاني في الحج بطريقة توجب الوقوف عنده، إنَّ هذا المعنى هو المعنى التاريخي للحج، فالمسلمون حين يقومون بمناسك الحج إنما يعيدون –بطريقة عملية حية– التاريخ الإيماني الإبراهيمي على الأرض، فيفارقون أوطانهم كما فارق إبراهيم الخليل وطنه، ويمرون بكل ما مَرَّ به إبراهيم وولده إسماعيل-عليهما السلام– إلى أن ينتهوا الى التلبية «لبيكَ اللهمَّ لبيك» فى اجتماع عرفات الأعظم، ثم يرجمون الشيطان كما رَجَمَ إسماعيل .. فكأنَّ الحاج يقول لله تعالى من خلال هذه الشعائر (الأشياء الرمزية) أنه لوْ اقتضتْ الضرورة مرة أخرى؛ فإنه مستعد كيْ يسير على خطوات إبراهيم نفسها .. حتى ولوْ ذَبَحَ ابنه! إنَّ تكبير الحاج (الله أكبر .. لا إله إلاَّ الله .. الله أكبر) من شأنه توليد نفسية معينة فيه ليعي عظمة الله وحده، وكل جوانب العظمة الأخرى يجب أن تتنحَّى أمام عظمة الله الكبرى. حكمة الطواف والسعي إنَّ «طواف الحاج حول الكعبة» إنما هو إقرار عملي بأنه سيجعل نقطة واحدة محور كل جهده وسيتحرك فى دائرة محددة، هي دائرة الحنيفية السمحة، كما تطوف كل سيارات النظام الشمسي حول مركز واحد حول الشمس. و«السعي بين الصفا والمروة» يُعلِّمنا أن يكون مسعانا داخل حدود معينة، دون أن نتجاوز أوْ نتلفت بعيداً عن دائرة إخواننا المؤمنين الآخرين. وهكذا يدور المعنى التاريخي الحي في الحج مع كل الشعائر، وأن (المعنى الاجتماعي) يدور مع هذه الشعائر أيضاً، كما أن (معنى الوحدة) يدور كمعنى أساسي من معاني الحج البارزة. رمز الوحـدة والتوحـيد وقد أحسن «المؤلف» في تصوير معنى الوحدة كما أحسن تصوير المعنى التاريخي ... فالذين يتخذون من الكعبة قبلة ليسوا هم من يُصلُّون فى المسجد الحرام فقط، بلْ المسلمون جميعاً فى شتى أقطار الأرض يتخذون من الكعبة قِبلةً لهم أيضاً .. وهم يقفون فى كل أنحاء الأرض خمس مرات كل يوم حول الكعبة من جوانبها الأربعة .. أيْ أنَّ المسلمين يقيمون حولها دائرة كاملة على وجه الأرض، فتكون الكعبة هي الوسط، بينما المسلمون يؤدون صلواتهم حولها فى دائرة من كل ناحية على وجه الأرض البسيطة، وهذه ناحية اجتماعية عظيمة لا مثيل لها فى أية جماعة دينية في العالم .. ولو كان فى المسلمين شعور حقيقي فرعوا هذا الدرس لوقعت النهضة الحقة ولانضموا جميعاً –بعيداً عن عوامل التمزق– إلى هذه الهيئة الاجتماعية العالمية المقدسة. وإنَّ الكعبة –بحق– هي رمز توحيد الله على الأرض. وهي رمز وحدة المسلمين وهيئتهم الاجتماعية. الحـج أفضـل العبادات لَمْ يغفل «المؤلف» الجوانب العاطفية فى الحج، فالحج – إلى جانب ما ذكرنا– علاقة بالله، وشعائر تصل ما بين الخالق والمخلوق ورحلة إلى الله ... لاستئناف المسيرة على هدى وبصيرة ... وهو عطاء بقدر عفو الله وكرمه، وهو تجديد للإيمان، وهو تحقيق للتقوى والأخلاق الفاضلة، وتدريب على تجنب الثرثرة والرفث والمِرَاء والعنف، وتعويد على الانضباط وإنكار الذات، والإندماج في الجماعة. إنَّ(حقيقة الحج) حقيقة عظمى بلا ريب، ولقد نجح وحيد الدين خان فى تجلية كثير من جوانب هذه الحقيقة بأسلوبه الرائع، وثقافته العميقة الأصيلة والعصرية فى سياق واحد .. وهناك تذكَّر مقولة الإمام أبي حنيفة عندما حَجَّ أول مرة فقال: «أيقنتُ أنَّ الحج أفضل العبادات»! كما استطاع «المؤلف» في هذه الدراسة العميقة، أنْ يكتشف معاني كثيرة في الحج تجعل القارئ يشعر بأنَّ الحج «رحلة العمر» وأنه «من أفضل العبادات» وأنه تذكير عظيم بقصة التوحيد، وبرحلة الحنيفية السمحة على الأرض، وبأنه –لوْ فُهِمَ حق الفهم– سبيل عظيم لتحقيق وحدة المسلمين ولازدهار الدعوة الإسلامية في العالم، ولتحقيق سبل التقدم الإسلامي الشامل ولإعادة المسلمين إلى مكانتهم الصحيحة في الحضارة .. مكانة الأُمَّة الوسط .. أُمَّة التوحيد .. خير أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاس.
مشاركة :