يدخل الإنسان الحياة بصرخة أو ابتسامة، فيعطونه إسماً، كجواز سفر يعبر به مسالك الحياة وأيامها، ويصبح بعضاً منه، بل هو ذاته. لتبدأ مسيرته في الحياة، فيهب ذلك الاسم بعداً ومعنى. ثم يأتي الموت كحدث مفجع، مُعْلناً انتهاء الرحلة، والنزول من القاطرة، عابراً إلى عالم آخر ورحلة أخرى. فالأسماء هي بداية البدايات في رحلة الحياة، وخلف حروفها، أقصد ستائرها، يختبئ البشر صانعوا الأحداث، وكاتبوا التاريخ. ولها يعود الدور الأهم في معرفة كنه الأشياء، وما استغلق فهمه، ولهذا كانت أول ما علمه الله لآدم. ولأهمية دورها في حياتنا، جعلت الكاتبة هدى حمد من «أسامينا»، عنواناً لروايتها الجديدة الصادرة عن "دار الآداب في بيروت"، في محاولة للغوص في أغوار مجتمعاتنا بنكهة عُمانية، وتفاصيل إنسانية. يُلقي الموت بظلاله على أحداثها من الأسطر الأولى. ولكن ليس على طريقة ألبير كامو (Albert Camus) في روايته «الغريب»، المبحر في العبثية، والاستحواذ على القارئ عبر المفاجأة من الكلمة الأولى. إنما أرادته الكاتبة موضوعاً مفصلياً يتردد عبر الصفحات، لتنطلق منه الشخصيات في رحلة الحياة. فيتأرجح القارئ بين ثنائية الحياة والموت الذي ما إن يغيب حتى تحضر مباهج الحياة في أبهى صورها. رواية حداثية، يتوالى وقع أحداثها بشكل عمودي مترابط، من دون استطرادات تقطع تسلسل أفكار القارئ. كتبت بصيغة المتحدث، فاختصرت الكاتبة بذلك المسافات بينها وبين القارئ، مشعرة إياه بالحديث إليه مباشرة. مما يدفعه للتفكير والسفر بعيداً في ارتحال بين ثنايا التفاصيل المتداخلة من دون ضجيج، ما بين الخاص والعام والمتخيل. موشحة سطورها بأريج بوح يحبه البشر عموماً، ويصغون لهمساته. فيكتشف القارئ في لحظة أنه في أجواء عائلية، وذكريات جد جميلة مرَّ في رحلة حياته ببعض منها. بدءاً من زمن الطفولة والأحلام الصغيرة. والطريق إلى المدرسة المعشش في الأعماق، ورفقة الدرب الحاضرون في حياتنا دائما. وبداية تعلم القراءة والكتابة التي غالباً ما تبدأ بوصل أحرف اسم الأم ببعضها، في عملية إعادة اتصال بالحبل السري مرة أخرى. والخروج من القرية والمحيط، واللقاء الأول بالبحر، ومدى الخوف منه. ورؤية رجال يلبسون بناطيل لأول مرة، والخروج عن المألوف وتناول الطعام في مطعم... وذلك بلغة هادئة، سهلة غير معقدة. وجمل قصيرة تضفي على السرد إيقاعاً موسيقياً يشكل إضافة جديدة على أحداثه. ويشد انتباه القارئ، فلا يدعه يبتعد من الأحداث المحبوكة بإتقان. مطرزة جملها بعبارات من القاموس العُماني الغزير مثل: المليتْوَة (لعبة أطفال)، المِصَّر (عِمامة الرجل)، الطوبَج (الفُرن أو المُوقد). ويلعب الترميز في الكثير من تفاصيل الرواية دوراً مهماً، إذ تستخدمه الكاتبة لصالح السرد، ولإرسال رسائلها إلى القارئ لتخرجه من الغرق في النص، إلى حالة من التفكير الأعمق، وفك الشيفرات المرسلة إليه، من أجل تشكيل حالة من الوعي لديه. فـ«المتر»، وهو المسافة التي تفصل مدربة رقص الـ"أروبيك" عن الراقصات، ربما كان أيضا المسافة التي تفصلنا كبشر عن الواقع، والحقائق المرة. وربما عن الحياة والتنعم بها بصفة عامة. فكثيرون يعيشون في هذه الحياة ويمضون بعد ذلك من دون الدخول فيها. بل يبقون على هوامشها كمشاهدين لمسلسل تلفزيوني. إنه متر رمزي للمسافات، كل المسافات التي تلعب دوراً حاسماً وهاماً في كل خطواتنا، إذ نحافظ على تلك المسافة البسيطة، لأن بقاءها يعني حفاظنا على كثير من خبايا الدواخل. إنه المتر البرزخ في حياتنا. وتلك المسافة البسيطة بين أن نقول، أو لا نقول ما نفكر فيه. اختارت الكاتبة شخصيات روايتها بصورة منتقاة من المحيط الذي تعيش فيه، وأقامت لهم مسرحا في أجواء قرية عُمانية، بعيدة من المدن وصخبها، لا تختلف كثيراً عن قرى الخليج العربي، وواحاته المنشرة في عمق صحرائه، من حيث البساطة، وشظف الحياة. جاعلة من العادات الاجتماعية، والتقاليد، وألعاب الأطفال، والمحيط بصفة عامة، عناصر أضفت على الرواية بعداً إنسانياً، أقرب إلى الذكريات الخاصة، طارحة على بساط البحث قضايا وإشكاليات مهمة تعاني منها مجتمعاتنا. مررتها الكاتبة ضمن السياق السردي بهدوء، وبشكل انسيابي، من دون اللجوء إلى الخطابة، والغوص في الطوباوية. وذلك كالعلاقة بين الرجل والمرأة، والحياة الزوجية التي ترى أن خير وسيلة لدوامها تكمن في استثارة المرأة الدائمة للرجل («من تُرِدْ تعليق زوجها للأبد فلترقص له»). تتناول الكاتبة أيضاً الكثير من مشاكل تلك المجتمعات الصغيرة، ومجتمعات المدن، بنوع من الحسرة. ومنها الزواج المبكر لبنت في الحادية عشرة من عمرها، كبرت بين يدي زوجها، وكأنها ابنته. فكانت تجلس في أحضانه، فيداعب شعرها ويمشطه لها، ويعلمها القبل والهمسات التي تعلمها بدوره من أفلام السينما المصرية التي تعرضها شاشات التلفاز. والعائلة التي تعاني غياب أبٍ متواصل بسبب عمله. وما تشكله عملية الانفصال عن القرية من بتر في الأعماق، وحرق للمراكب وللذكريات، وللماضي بكل لحظاته، وبعضاً من كينونة الإنسان. وعلاقة الوالدين بالتوأم، وتركيز مشاعرهما وعواطفهما على ولد دون آخر، في عملية إقصاء متعمدة لأحدهما، مما يولد لديه شعوراً بأنه شخص غير مرغوب فيه. فيكون أي عقاب له من قبلهما يساوي بالنسبة له فرحة لا تقدر بثمن. إذ تتساوى مشاعره أمام البسمة والعقاب، فكلاهما من حيث المبدأ اهتمام به ولو بأسلوب مختلف. وتطرح الكاتبة أيضا قضية مهمة لا نلقي لها كثير بال، تتمحور حول العلاقة مع كبار السن الذين بلغوا من الكِبَر عِتِيا، ونصبوا خيامهم، وجلسوا في البيوت، لتقوم عيونهم بتسجيل كل حركة وشاردة وواردة. ولازدياد تعلقهم شبه المَرَضي بالأبناء والأحفاد، يتدخلون في كل تفاصيل حياتهم، ويحولونها إلى جحيم أحيانا. وذلك لحاجتهم الماسة إليهم، ولوجودهم معهم. وخوفهم من الوحدة، وعوالم الصمت المطبق التي تحيط بهم، ومن الموت ونهاية الرحلة. فيترجمون مشاعرهم هذه على شكل تصرفات مزعجة. وتناولت حمد هذه المعضلة بطريقة تختلف عن تناول الكاتب الإيطالي روميو كستلوتشي (Romeo Castellucci)، لها، إذ استوحى كستلوتشي مفهوم الحب المسيحي، والجدلية القائمة على أساسه بين الخالق والمخلوق، ليقوم بإسقاطاته. وذلك في إحدى أشهر مسرحياته «حول مفهوم وجه الله»، ( Sur le concept du visage de Dieu)، بينما تناولت الكاتبة ذلك في روايتها من خلال جدلية صمت، وكبت، وتبادل للنظرات المشحونة بالظنون، الموقدة لعذابات داخلية لا تنتهي. ورغبة جامحة لدى كلٍ منهما في اقتحام دواخل الآخر لمعرفة بماذا يفكر، وكيفية نظرته إلى الأمور...؟ وقناعة داخلية بحاجة كلاهما للآخر لأسباب وجودية وإنسانية. ابنة تتمسك بأمها لأنها رحمها. وأم تتمسك بالابنة لأنها رابطها بالوجود، وكل ما تبقى لها في الحياة. مع أنها لم تكن تهتم فيما مضى بوجودها، مما كان يسبب للبنت ألماً ومرارة كانا يدفعانها أحيانا إلى البكاء «فينساب الدمع من عينيَّ، وفي لحظة من الزمن نصبح أنا وصنبور الماء شيئاً واحداً وعادياً للغاية، فكل منا يرشح بما فيه من دون أهمية تذكر»... * كاتب لبناني مقيم في باريس
مشاركة :