صحيح أن الشِّعر في عُمان، هو «الجنس» الغالب على غيره من الأجناس الأدبية، لكنّ الرواية بات لها حضور بارز أيضاً. ومن دون ذكر الأسماء والتجارب التي انطلقت منذ السبعينات، شكّلت رواية بدرية الشحي «الطواف حول الجمر» مرحلة جديدة في التسعينات، وهدفت إلى «تحرير الشكل الروائي العُماني من نقاط ضعفه السابقة بما فيها من تبسيط، وترهل، ونزعة توثيقية وتاريخية واجتماعية ناقصة، وتضخم للراوي كلّي العلم، ولغة عتيقة لا تتلاءم مع متطلبات السرد الحديث»، كما يرى أحد الدارسين. ثم تبعتها تجارب أشد تطوراً في ما بعد. وفي هذا السياق من التطور، تأتي رواية «التي تعدّ السلالم» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد (دار الآداب). هي رواية تجمع بين الشخصيات التاريخية والراهنة، لتقدم من خلالها مقاطع من تاريخ عُمان القديم والحديث، وعلاقة العُمانيين بإفريقيا، ولتقدم قراءات نفسية/ اجتماعية للمجتمع العُماني، والعلاقات بين البشر فيه، ولا سيما علاقة الخادم بالمخدوم، والعكس. يبدأ السرد على لسان «بطلة» الرواية (زهية) التي درست في مصر رغم رفض العائلة، وهي تقدّم نفسها في لحظة غياب الخادمة السيريلانكية دارشين وحضور الخادمة الأثيوبية فانيش مكانها. «بين خروج دارشين السيريلانكية ودخول فانيش الأثيوبية، لا أدري ما الذي حصل. من سينظف بيتي في غياب الحقيـ...». في مشاهد لاحقة، تقدم لنا الساردة الأولى جانباً من شخصية عامر الزوج، كاتب القصص، والعلاقة معه منذ البداية. ثم تنتقل لترسم صورة لعالم الخادمات في البيوت، عبر معاناتها هي، سيدة البيت المتزمتة، في العلاقة مع خادماتها، حدّ أن تضع للخادمة «مربّعاً»/ سجناً تتحرك فيه، ولا يُسمح لها بالخروج عليه. ظلّ هذا السلوك طاغياً حتى المقطع الأخير في الرواية، حين نجد «السيدة» تدعو خادمتها «فانيش» إلى محل «آيس كريم» وفيلم سينما، فتختفي الوساوس. ترسم الكاتبة شخوصها على مهل، وبكثير من التعمّق في الحالة النفسية لكل شخصية. وهي تشتغل على محورين متداخلين ومتشابكين، محور العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع العُماني، وعلى نحو غير مسبوق من الجرأة في تناول الكثير من الظواهر، ومحور الشخصيات العابرة للمكان والزمان العُمانيين، في تداخلهما مع العالم الخارجي. فهي تتناول تاريخ البشر في الزمان والمكان، لنتعرف على تحوّلاتهم وتقلّبات حيواتهم. شخصية زهية محورية، ذات طابع «وَسْواسيّ». تشكّ وتخاف وتصاب بالقرف من أشياء بسيطة، وأكثر ما يرعبها هو اقتراب الخادمات منها، وتجاوزهنّ للحواجز التي تقيمها بينها وبينهنّ. وكثيرات يرحلن ويتركنها بسبب هذا المربّع/ السجن، وآخرهنّ دارشين، إلاّ أنّ فانيش ستقلب حياتها ووساوسها، لتغدو إنسانة أخرى. ومن خلال علاقاتها المتشابكة، تستطيع زهية أن تكشف لنا عن عوالم شديدة الغرابة، يقدّمها الرّواة كل بأسلوبه وطريقته ولهجته. فهي تكشف عوالم سياسية وثقافية واجتماعية شديدة الحساسية في المجتمع العُمانيّ، وما شهده هذا المجتمع من تحوّلات على غير صعيد. فهي تجمع الذكريات والتفاصيل الصغيرة، إلى الحوادث ذات الطابع الانقلابي، رافضة بعض المظاهر، مع تشريح للكثير من الظواهر، فتتوقف، مثلاً، عند ظاهرة ختن الفتاة، بما تنطوي عليه من دم وعذابات وتمزّق لروح الأنثى. تبرز حالة التفكير «الوسواسيّ» لدى نزهة، في تعاملها مع منام تراه الخادمة فانيش، يتجسد في رؤية امرأة تنتحر في بيت مخدوميها. ثم ينتقل الحلم إلى منامات الفنانة، فتقوم برسم المرأة المنتحرة على شكل جدارية فوق أحد جدران البيت، في عمل فنّيّ مرعب يتدلّى فيه رأس المرأة على نحو خانق لمن يشاهدها، حتى أنها تعتقد أن هذه المرأة ليست سوى نزهة نفسها. ويرتسم هذا المشهد المرعب ضمن حوارات وتأملات شديدة الدقّة في التعبير عن حالة الهلوسة والهذيان لدى الفنانة، لنطل على حالة نفسية قد تقود إلى الانتحار فعلاً، لكنها في الواقع تقود إلى «الخلاص» من وسواسها. ومن خلال شخصية الخادمة فانيش نتعرف الى دولة إثيوبيا، العادات والتقاليد واللباس والمطبخ، فنجد طبق «اليوجالي» المصنوع من الذرة الشامية، ومشروب «التادج» وخبز «الأنجيرا». ومن خلال هذه الأكلات، ينهار الجدار الفاصل بين نزهة وفانيش، بل تكتشف الفنانة أن خادمتها متعلمة وقارئة جيدة، وتكتب مذكّراتها عن البيوت التي تخدم فيها، ومنها بيت نزهة وعامر. تحكي أيضاً عن شتاتها بعد أن تعلن إسلامها وتصير «سارة»، بحيث تتعلم العربية والقرآن نهاراً وتصلي للعذراء ليلاً، وقصة طردها من أحد البيوت بعد رفضها الانصياع لأوامر شقيق مخدومتها السكّير، الذي هاجمها وأراد اغتصابها. تستحضر الكاتبة، عبر رواية يكتبها عامر، «الهويات القاتلة» لأمين معلوف. فتروي قصة العُمانيين العائدين من زنجبار إلى عُمان، وتنقل كراهية الأفارقة للعرب حدّ الدعوة إلى قتلهم، بحيث يُطلق وصف «مانجا/ وامنجا» على العربي المتعصب. تتكئ الرواية على التاريخ، وعلم النفس، والمذكرات، والتقنيات والأساليب السردية المتعددة، لتقدم قراءتها و «رؤيتها» لما كانت عليه عُمان وما صارت إليه. هي جديرة بالقراءة على نحو أكثر عمقاً وتفصيلاً.
مشاركة :