العشق في "قصة عشق كنعانية"

  • 8/4/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

رواية "قصة عشق كنعانية" الصادرة عن دار الفارابي اللبنانية 2009، هي الرواية الخامسة لصبحي فحماوي، وواحدة من الأعمال الأدبية التي اختارت التزود بالذاكرة والتاريخ والأسطورة في نسج نص روائي متناسق في معناه ومبناه وفنيته. وهي أيضا إحدى الأعمال التي حظيت باهتمام ودراسات النقاد، كونها تحتوي مادة حكائية تشد القارئ العربي إليها بتمركزها حول قضية إنسانية، وجودية وحضارية هي قضية المكان/الأرض والوطن، وتستنفر أدواته وتستدرجه إلى عالمها قارئا ومحللا ومنقبا عن خصائصها التي تميزها، إلا أن العمل الإبداعي يظل مفتوحا على قراءات متعددة، وتأمل هذه الدراسة أن تكون واحدة منها وإضافة لها. اختار صبحي فحماوي تجريب بناء فني يفسح فيه مجال روايته "قصة عشق كنعانية" لالتقاء وتقاطع عالمين مختلفين: عالم المتخيل/ الأسطورة وعالم الواقع والتاريخ، والتأليف أدبيا بينهما في بوثقة واحدة، هي بوثقة تشكل الوجود الكنعاني، بوثقة قصة عشق كنعانية، عشق الإنسان للمكان وللجذور الأصلية، بوثقة تجسد العلاقة المتينة بين ما هو أدبي وفني وما هو أسطوري وما هو واقعي تاريخي وحضاري. تستمد رواية "قصة عشق كنعانية" قيمتها وخصوصيتها من كونها تتمركز حول المكان "الأرضية الصلبة بدونها لا قيام لسرد فني، هو شأن متأصل في الرواية العالمية، منها النموذج العربي. ومن كونها تشتغل جماليا ودلاليا على الأسطورة والتاريخ والتراث الحضاري، وتصر على الحفر عميقا في الذاكرة الجمعية من أجل كشف الحقائق التي لا تقبل الطمس، وتعري المكائد الخفية للاحتلال الغاشم، ولوصل الماضي العتيق بالحاضر ومد الجسور التي خربها العدو بين الفلسطينيين في حاضرهم وأصول الكنعانيين في أرض فلسطين. يقول الكاتب على لسان عمر عن اكتشافاته إن هذه "... المخطوطات الفريدة من نوعها، والتي تأخذك في (بانوراما) كنعانية، منذ بدء المعرفة، وخلق الحضارة الإنسانية، كأنك تعيش معها في يومنا هذا". هكذا يتضح أن هذه الرواية تحمل الهوية الكنعانية بدون منازع، وتدخل بذلك في فن الذاكرة، ذاكرة الكنعانيين. ماذا عن العشق في رواية "قصة عشق كنعانية؟ وكيف تفسر هاجس الجذور والأصول من خلال استدعاء الذاكرة الجمعية الخاصة؟ وكيف يتقاطع الأسطوري والتاريخي والأدبي في الرواية؟ الرواية وفن الذاكرة: تشدك رواية "قصة عشق كنعانية" منذ عتبة عنوانها الإيحائي الذي يفتح شهيتك لقراءة قصة عشق مثيرة، لتجد نفسك مستدرجا إلى مغارة عميقة بعبق التاريخ والرموز والأساطير والعشق والفكر والفن والمقومات الأدبية، لا مناص لك من الحفر بتواز مع بطلها عمر لاستخراج كنوزها. ومع القراءة والحفر في الأحداث وبين سطور المخطوطة، بدأت قصة العشق تكبر وتتجاوز حدود أفق الانتظار، وتنشق مغارة الرواية عن عشق أسطوري، عشق أبدي بين الإنسان والمكان لا تنقطع الصلة بينهما رغم مرور الأزمان، هو عشق الإنسان الفلسطيني لأرضه من البدائية إلى اليوم، لقد تحجرت تفاصيل حياته في أرضه أركيولوجيا. يقول الناقد المغربي أحمد المديني عن أهمية وقيمة الرواية التي تتمحور حول موضوع المكان: "لا رواية حقيقية، مقترنة بوعي ودراية فنية إلا انشدت إلى المكان انشداد المادة إلى الجاذبية، أو يتعذر دون ذلك تحقق الجنس الأدبي الذي همه أولا الاحتفال بمادة مكانية، والحصول من ثم على الخصائص والمؤهلات المرتبطة بهذا الانتساب. لا تكون الرواية تجريدا أبدا، ولا مضمارا لتداول وتطريز الاستيهامات الموحية عن المجال الذي يحيا فيه الإنسان، توجد فيه الشخصيات وتتفاعل، بل وهي مجبولة من طينها، منبثقة من تربتها، تتحدد هويتها انتسابا ومعنى، وفعل حياة من صميم هذه العلاقة، أو هي لاغية". تبدأ تفاصيل هذا العشق في الرواية مع عمر، الطالب الجامعي والباحث في علوم التاريخ والحفريات، الذي قصد مغارات النطوف بغزة، يبحث وينقب بكل حماس ويقين في الأرض بيديه وأظافره: "ها أنا أنبش بأظافري. لا نهاية لهذه الأتربة البيضاء". بحث أركيولوجي وأنثروبولوجي وبحث في الميثولوجيا ينفض عن التاريخ ما تراكم فوقه من طبقات الموامرة والنسيان والتغافل والجهل، ويثبت مما لا يدع مجالا للشك أحقية الفلسطينيين بأرضهم. وينتج عن ذلك العمل الشاق العثور على مخطوطة كنعانية بمساعدة الربة عناة. باشر عمر قراءتها حال إزاحة الأتربة عنها، فكانت أول علامة على هذا الإرث الكنعاني هي أن المخطوطة مكتوبة باللغة العربية، يقرأ بمشقة ما يلي: "بخار وضباب، ومياه مالحة، تتلاقح مع مياه حلوة، وعجينة ترابية تنعجن ضمن هذا الهولي الهولي العظيم. عالم ضبابي غير واضح المعالم... يبدو مثل بيضة لا نهائية الحجم تشقها الإلهة الأولى، الإلهة الأم (يم) إلى شقين.. قامت الحياة، وانشق الكون". نها بداية تكون المكان. يسترسل عمر في قراءة كيفية تشكل السماء والأرض والوديان والخصب والنسل من المخطوطة إلى أن يصل إلى هذه المعلومة: "هذه البلاد الكنعانية واسعة، تتمطى على شواطئ بحر كنعان الكبير إنها عالم فيه جبال وغابات ووديان وسهول ومراعي، مدن حضارية حصينة، فيها بيوت حجرية عظيمة، وقصور وهياكل وآلهة". يبدو جليا أن الأسطورة تحتفظ للإنسان الكنعاني بأولى لبنات التكوين والوجود الأول والتطور، ويأتي الكاتب صبحي فحماوي من منطلق الإحساس بالمسؤولية وحمل الأمانة الجسيمة، ليترجم ما تحتفظ به الأسطورة من حقائق لا تقبل الشك، وليعيد بناء معطياتها أدبيا، ويجعل الإنسان العربي مدركا لتاريخه وجذوره الضاربة في أعماق التاريخ، يقول الكاتب على لسان بطله: "وهذه الأمانة ليست مزحة، إنها مسؤولية". تجد الحياة الكنعانية بتفاصيلها منقوشة على سطور المخطوطة، كما هي محفورة على أرض كنعان الشاسعة على كل المستويات: الطبيعة والمنتوجات الفلاحية: (سهول واسعة، كروم عملاقة، عنب وتين وزيتون ولوز وجوز ... )، والتاريخ والجغرافيا "في دار الكتاب في بيت لحم، يقف المعلم اليسع بين تلاميذه قائلا: الأمة الكنعانية تنتشر في البلاد، بين الأومريين في حماه وحلب، وفي الشام، شاما، شاميما، أرض السماء، وفي أوغاريت الملك الكبير، وجزيرة أرواد بحرا، وعلى شواطئ جبيل وبيروت وصور وصيدا، (... )". وفن العمارة: "هل أدهشتك عظمتك أورسالم وبواباتها الضخمة؟ ذلك المعمار الكنعاني الشامخ إلى السماء؟" والسياسة: ذكر الملوك والمملكات الكنعانية والعلاقات السياسية والاقتصادية بينهم والتي يثبتها التاريخ على أرض فلسطين، "... سنكون اتحاد مماليك كنعانية"، واللغة: اقرأ ما فيها يا عمر ـ ها أنا أحاول القراءة يا سيدتي.. إنها لغة عربية، نفس اللغة الكنعانية، أصل الآرامية التي تعلمناها في الجامعة." "يؤلل إل، إل" في العصر الكنعاني تقابلها اليوم عبارة (يهلل الله الله - دائرة الآثار)، والديانة التوحيدية: "نحن الكنعانيين نتبارك بكل الأرباب المحلية، ولكننا نؤمن بإله الدنيا كلها، الواحد الأحد، الـ "والصناعة والتجارة والعملة (صناعة وتسويق الخمور والأقمشة والسفن...)، "فالشواقل الكنعانية الفضية جاهزة لك". والفن: "وأفرشة بتطريز فني فلسطيني أصيل". "تجلس على المطرزات الفلسطينية التي تختم المفروشات بخاتمها الفني العريق"، أسلوب الكنعانيين في الحياة ومكانتهم بين الشعوب الأخرى: "لا شك أن هذه المحبة بين الناس والاحترام المتبادل، وعدم اللجوء إلى العنف ونبذ الحروب واستبدالها بالعلاقات التجارية، تؤكد أن الكنعانيين هم شعب ال المختار".. إنها الحياة الكنعانية، العربية الأصيلة الغائرة في عمق التاريخ على أرض فلسطين. هكذا يتضح توجه الكتابة الروائية في "قصة عشق كنعانية" صوب الذاكرة الجمعية بكل مستوياتها الوجودية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والطبيعية. تنقب عنها وتستعيدها وتستجمع الدلائل والوثائق من مصادر مختلفة، مكانية وتاريخية ودينية وتراثية... وإعادة تحليلها ومقارنتها وتفسيرها برؤيا سردية تقوم في أساسها على المواجهة والمقاومة ضد النسيان والتسلط والمحو... من أجل الحاضر والمستقبل.

مشاركة :