السيرة الذاتية والسيرة النقدية بين مفكرين

  • 8/4/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الغريب أنه في ظل هذا الميثاق جاءت كتابات خالية من الصدق، وهناك مَن عمل على المراوغة باستحداث أشكال جديدة استطاع من خلالها أن يمرّر سيرته، أو أصداء من هذه السيرة دون أن يكون مُلزمًا بالميثاق السيري. فظهرت كتابات تندرج تحت “رواية السيرة الذاتية”، وهي نوع من الكتابات يزاوج أصحابها بين التخييل والمرجعي، وهو ما يُعطي أصحابها القدرة على التمويه عن الشخصية الحقيقية، بالتواري خلف ضمائر تبعيد (هو/أنت) على عكس ما يفعله ضمير التذويت (أنا) من إحداث التطابق بين الهويات الثلاث (الشخصية/المؤلف/الراوي). كما وازت المرونة التي أتاحتها طبيعة الرواية، باعتبارها نوعًا مرنًا أو مفتوحًا؛ لأن تندرج وتتداخل معها أنواع متعددة؛ مرونة أخرى في النوع القريب منها أي السيرة الذاتية، فظهرت في إهابها تصنيفات وتنويعات عديدة منها: السيرة الغيرية التي يقوم بكتابتها شخص عن صاحب السيرة، وأيضًا رواية السيرة الذاتية، أو السيرة الذاتية الروائية كما يفضّل البعض، فكما يقولون إن “القص السير ذاتي، هو وريث القص الروائي”. نماذج السيرة الغيرية، يُقبل عليها المشاهير من أهل الفن ورجال السياسة، حيث يجلسون أمام مَرْوي عليه، وهو أشبه بكرسي الاعتراف في الطقوس الكنسيّة، ثم يستعير هذا المروي عليه، في مرحلة أُخرى دور الراوي فيما بعد، فيصوغ السيرة بأسلوبه لا بأسلوب راويها الأصلي، فالكاتب مجرد وسيط بين صاحب السيرة والقارئ عبر الأسلوب. ومن النماذج الشهيرة لهذا النوع ما فعله نجيب محفوظ مع رجاء النقاش في “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، وأضواء جديدة على أدبه وحياته”، أو مع جمال الغيطاني على نحو “نجيب محفوظ يتذكر”، ومحمد سلماوي “في حضرة نجيب محفوظ”. فنجيب محفوظ وزّع سيرته على رواة عدّة، هم من كتبوها على لسان محفوظ. وهناك السيرة الذاتية الفكرية، التي تتوازى مع خط السيرة الذاتية، التي تحكي ما يتصل بحياة الشخص، مع فارق أن السيرة الذاتية الفكرية تروي عن مسيرته العلمية والفكرية والفلسفية. وإن كان ثمة فارق آخر بينهما يتمثّل في أن السيرة الذاتية صالحة، لأن يحكيها كل شخص باختلاف موقعه ودرجته العلمية، فهي تحكي مسيرة حياة عادية. أما السيرة الذاتيّة الفكرية أو الذهنيّة، فتقتصر على مَن أسهموا في مجالات العلم والفكر. على نحو ما رأينا في سيرة عبدالوهاب المسيري “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر”، وبالمثل علي حرب في سيرته “خطاب الهوية”، وبنسالم حِمِّيش في “الذات بين الوجود والإيجاد”. ومن النماذج العالمية ما كتبه بول ريكور تحت عنوان “بعد طول تأمّل”، والأمثلة على هذا النوع كثيرة. ثمة نوع آخر يندرج تحت هذا النوع، هو أشبه بنوع من التداعي بين الراوي والمرويّ عنه، وغالبًا يكون الراوي قد ارتبط بالمرويّ عنه بعلاقة صداقة أو عمل. يمكن أن نطلق عليه “السيرة النقدية”. ومع أن هذا النوع يقترب من البروفايل أو الصورة الأدبية، إلا أنه في بعضه يقترب من السيرة الغيرية ولكن دون حيادية الراوي. فهنا الذات الرَّاوِية تتوقف عند شخصية المَرْوِيّ عنه، وأثناء الاستعادة تقيّم هذه مواقفها وأيضًا كتاباتها وغيرها. بمعنى أكثر وضوحًا، أن الذّات المُستعادة هنا لا تُستحضر كنوعٍ من الاجترار لمسيرتها ونضالها أو حتى التمجيد لها، بذكر قدرتها على تغلّب وتخطي الصعاب فكانت ما كانته. وإنما في عملية الاستعادة تضع الذاتُ الرَّاوِية الذاتَ المَرْوِيّ عنها في مواجهة، فتقيّم أعمالها عبر التحاور سواء بالاتفاق أو الاختلاف. وفي جزء مهمّ منها تسعى الذات (ذات الرّاوية) عبر وضعها في مرآة الذات المرويّ عنها، إلى اكتشاف أناتها. بصمة الإنساننلمح مثل هذه الصورة للسيرة النقدية، بجلاء فيما كتبه تزفيتيان تودوروف تحت عنوان “بصمة الإنسان” ترجمة نجلاء محرم (آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة). فتودوروف قدَّم عددًا من الصور أو الوجوه لشخصيات لا يجمعه بهم سوى الاعتراف بالجميل على حدّ قوله، خاصة وأن هذه الشخصيات “استطاعت مقاومة الأوقات العصيبة في الماضي البعيد أو القريب”. ويأتي الغرض من هذه الكتابة كما يقول لرسم صورته الذاتية بطريقة “البورتريه الصيني” (ليس البلد) وإنما كطريقة للكشف عن مظهر الشخصية ورأيه فيها. في الكتاب قدّم صورًا لخمس شخصيات؛ هي إدوارد سعيد وياكوبسون وميخائيل باختين وريمون آرون وجيرمان تييون. في الفصل الخاص بشخصية إدوارد سعيد جعل تودوروف ذاته تتقاطع مع ذات إدوارد سعيد في عملية استعادة شبه كلية لسيرتهما الحياتية والفكرية معًا. وكأن الاستعادة في أصلها بحث عن ذاته في مرآة الآخر (سعيد). فبقدر حديثه عن سعيد كان حديثه عن ذاته، التي اكتشفها في مرآة سعيد. وإن كان لا يرضي أفق توقعاتنا كقرّاء للسيرة الذاتية أو الغيرية بشكلها الكلاسيكي، بأن ننتظر من تودوروف أن يجعلنا كقرّاء نلهث خلف حكايات عن طفولة مُعذبة، وجفاء آباء أو تحدٍّ لشظف عيش، وصولاً إلى تحقيق طموحات وآمال. وإن كان هذا المعنى مُتحققًا بشكل أو بآخر، إلا أنّه ليس الهدف الأصلي أو الحقيقي. فالهدف هو وضع ذات الرّاوي والمرويّ عنه في مواجهة وندية في ذات الوقت، لإبراز التقاطعات بين الذاتيْن. فتودوروف بعد مقدمة قصيرة عن إدوارد سعيد، الذي يعتبره واحدًا من أشهر المثقفين في العالم، وأكثرهم تأثيرًا في الفترة من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وأكثر الأصوات دعمًا للقضية الفلسطينيّة؛ يأخذنا إلى منعطفات من التقاطعات (أو المشتركات) بينهما، والتي وصلت إلى صداقة قوية استمرت حوالي ثلاثين عامًا. من هذه المشتركات كما يقول “كانت تجمعنا بعض السّمات المشتركة التي ساعدت في التقارب بيننا كالولادة” فالفاصل الزمني بينهما أربع سنوات، وأنّ أوّل كتاب لكليهما كان في عام 1966 وهو مأخوذ عن رسالتيهما الجامعية، ومثلما كان سعيد مهتمًّا بالمجادلات النظرية، كان تودوروف مهتمًّا بالدراسات الأدبيّة.كذلك هما مهاجران من دول تقع على هامش الغرب، سعيد قَدِم من فلسطين، أما تودوروف فجاء من بلغاريا، إضافة إلى أن موطنهما الأصلي كان خاضعًا للإمبراطورية العثمانية. يرسم تودوروف عبر مرآة سعيد صورة ذاتية لذاته أولاً، ثم صورة لسعيد، وإن كانت جاءت بعيدة عن تلك الصورة الأسطورية التي صُنعت للرجل. فهي صورة قريبة جدَّا، تكشف عن حبّه للمزاح، لا يخجل من إيماءاته الفردية ولا يعتبرها خروجًا عن الوقار، كما كان مثالاً للبساطة والتواضع، دون أن يتخلّى عن أناقته فهو صاحب ذوق رفيع في الملبس، حتى يخال وكأنّه راسخ على الأرض، فهو جسد أيضًا إلى جانب عقليته، ومهتم به ولا يريد تجاهله. وأيضًا صورة تتجلّى فيها إنسانيته دون أن تنتقص من قدره العلمي ونمط حياته حتى يخال أنه يعيش بإيقاع أسرع من غالبية الكائنات الحيّة الأخرى. وفي ذات الوقت هي صورة نقدية، تكشف عن صراعه الداخلي حول الهوية، وشعوره بالتمزق بسبب هذه التعددية التي عاش فيها، فلم يكن يعلم ما هي لغته الأم بالضبط: هل هي العربية أم الإنكليزية؟ وقد حملَ هذا الانقسام والتشتت اسمه المُنقسم بين نصفه الإنكليزي إدوارد والعربي سعيد. وبين رفض لثقافة اللغة الإنكليزية، ثم مهاجرًا إلى أميركا حاملاً جواز سفرها، وبينما كانت تمثّل له جامعاتها أعلى معرفة في العلم والمعرفة، لكن سياستها كانت تثير حنقه وسخطه. وبينما يستعرض الكثير من حياة سعيد لا ينسى أن يبرز ذاته ويقارن بين الأوضاع التي دفعت سعيد إلى السّير في هذا الاتجاه النقدي، فهو مثل سعيد كمهاجر وضع ذاته موضوعًا للتأمّل، حتى في اختيار موضوعات كتاباته. فسعيد ابن فجيعة حرب الأيام الستة، فكما يقول تودوروف إن سعيدًا قبل هذا العام 1967، لم يكن قد تبنّى وجهة نظر سياسية بعد، لكن بعد هذا التاريخ شعر بأن ما يحدث لشعبه يخصه من الأعماق، عندئذ قرّر أن يعيش على صعيديْن منفصليْن. صعيد الجامعة وهو عالمه المهني، ولم يكن يذكر فيه أصوله الفلسطينية، أما في المدينة فقد انخرط بقوة أكثر في شؤون بلده. هذا الجانب كان بمثابة التزام سياسي خاصّة على الرغم من اعتراض أبيه وأمه على عمله بالسياسة. يشير تودوروف إلى أن سعيدًا وجد وسيلة تقريب بين خطي حياته، من خلال التركيز على تحليل أعمال الأدب الغربي، فقد اكتشف المُهاجر طريقًا مشتركًا يتمثّل في دراسة الخطاب الغربي حول الشرق وهو ما أسماه الاستشراق. في استعراضه لكتاب سعيد “الاستشراق” الذي صدر عام 1978، يقدم تودوروف رؤيته لما طرحه سعيد من أفكار يؤيد الكثير مما طرح فيه، خاصة ما هو متعلّق بالحديث عن الشرق الذي هو في ظنهما مليء بإكليشيهات غير منصفة على الإطلاق. ومع هذا يعترض على رأي سعيد بخصوص الأشخاص داخل كل ثقافة وإن كانوا مختلفين فيما بينهم إلا أنهم يشتركون في العديد من الملامح. فتودوروف يرى إذا كان ليس للثقافات طبائع أساسية (خالدة)، فإن ذلك لا يمنعها من أن يكون لها وجود (تاريخي). تماثلات وتناقضاتالتقارب بينهما في الاهتمامات لم يمنع وجود بعض الاختلافات فمع أنهما مهاجران، إلا أنّ سعيدًا ينظرُ للمعارك بين الشرق والغرب، وبين الشيوعية والديمقراطية الليبرالية، على أنها صراع بين الأغنياء، بين البيض وبين الأوروبيين، ومن ثمّ يجب النظر إليها كجماعات يجب صرفها بعيدًا والنظر إليها ككتلة واحدة في مقابل شعوب الجنوب أو العالم الثالث. فهم في نظره “الأبطال الحقيقيون للصراع”. أما الاختلاف الآخر، فيتمثّل في أن العدوّ الرئيسي لسعيد هو الاستعمار الأوروبي أو الأميركي، أما بالنسبة إلى تودوروف، فالعدو هو الشمولية والشيوعية أو النازية. وعلى مستوى المرجعية الفكرية فسعيد دومًا يستأنس بلوكاتش وأويرباخ وجرامشي وآدورنو وفانون وفوكو. أما تودوروف فيستعين بميخائيل باختين ولوي دومون وكارل بوبر وريمون آرون وفاسيلي جروسمان وجيرمان تيسيون. وأيضًا من الفروق أن سعيدًا كان دومًا يبحث في مسألة السُّلطة، أما تودوروف فيبحث عن سُبل التوافق. كما أن سعيدًا كان يركز وهو يتناول النصوص الأدبيّة على محور الاتصال فيها: مَن يتحدث؟ وإلى مَن؟ ولماذا؟ أما هو فيركّز على التأويلات، فقراءته للنصوص تأتي كنتاج للمعنى. ومن الاختلافات ما هو متعلّق بالشأن العام، فسعيد كان منخرطًا في معركة سياسية تهدف في نهاية الأمر إلى إنشاء دولة فلسطينية. في حين تودوروف كان بعيدًا عن أي التزام سياسي، فنظرًا لأن بلغاريا كانت خاضعة لنظام مفروض من قبل الاتحاد السوفييتي، فكان يخشى تبعات المواجهة على عائلته التي كانت تعيش هناك. والسبب الثاني أن إيمان سعيد بالقضية الفلسطينية تجاوز آمال النجاح إلى وضع فلسطين ذاته التي لم تعد موجودة ككيان. فقد تمّ رفض هويته في حين تودوروف يعيش في باريس إلا أن بلغاريا موجودة على الأرض، أما فلسطين فأُعلنتْ “أرض بلا شعب” فالإحساس الذي يحرّك سعيد ليس الحنين للوطن، وإنّما المثقف العالمي الذي يشعر بأنه على سجيته في نيويورك؛ المدينة الأكثر انفتاحا في العالم، فكأنّ ثمّة تهديدًا يحوم حوله أن يتم الإعلان عن وطنه بأنه غير موجود، وهو ما يمثل الإحساس بالظلم التاريخي. وهو أيضا الأمر الذي عزّز من رؤية سعيد الوسطيّة التي تقبل بوجود إسرائيل، بل كان يدين المناضلين السياسيين الذين يحذفون عن عمد اسم إسرائيل من خطابهم السياسي، كما يدين الكفاح المسلح ضدّ إسرائيل، لا لأن المواجهات ليس لها جدوى، وإنما لأنها غير مقبولة من الناحية الأخلاقية والميتافزيقية. على الجانب الآخر كان يدين العنصرية الإسرائيلية، ويرى أنه يجب وقف إرهاب الدولة الذي تُمارسه إسرائيل يوميًا ضدّ المدنيين الفلسطينيين وغيرها من رؤى حمَّلها سعيد للكيان الإسرائيلي. اللافت أن سعيدًا قدم بذاته نموذجًا للتقارب بين الشعبيْن، فإلى جانب تفهمه لكل الأشياء المشتركة في التاريخ الفلسطيني واليهودي. أيضًا كانت لديه صداقات كثيرة من اليهود، علاوة على اعترافه الذي أثار الحنق ضد عندما قال “إنني آخر المثقفين اليهود”. الديوان الغربي-الشرقي يُعلّق تودوروف على مواقف سعيد إزاء قضية فلسطين سواء في كتاباته أو تصريحاته أن سببها حالات الحرب التي يمرُّ بها وطنه لا تسمح لأيّ إنسان أن يكون معتدلاً في أفكاره وأقواله، كما أنها لا تسمح لكي ينسى. وإن كان يرى فمع أقواله الحادّة إلاّ أن روح التزامه السياسي غير متطرفة وتتميّز بالاعتدال. وقد تجلّت عملية سعيد في تحقيق المُشاركة والتوافق من خلال تأسيسه للأوركسترا السيمفوني (الديوان الغربي-الشرقي) بعد استقالته من البرلمان الفلسطيني. ويهدف القائمون على هذا الأوركسترا المساهمة، ولو على هذا الصعيد المتواضع، في تحقيق تفاهم وتعارف أفضل بين الشعوب. في استدعاء ذات سعيد باعتبارها ذاتًا مرويًّا عنها لا يتوقف تودوروف عن إظهار المُعارضة لكثير من آرائه. فليس معنى أن أكتب سيرته أن أعرضها كما هي، وهذا هو الفارق بين السيرة الغيرية والسيرة النقدية، فالغيرية يعرضها الراوي في حيادية دون تدخُّل منه لأنه واقع تحت سطوة صاحبها لا يحتفظ لنفسه إلا بأسلوبها. أما في السيرة النقدية فكل شيء يعود للراوي وليس لصاحب السيرة باستثناء استدعاء أصداء حياته التي يوزّعها على السرد. لكن الأسلوب هو للمؤلف وانتخاب المواقف أيضًا للمؤلف، إضافة إلى وجهة نظر الراوي فيما يروي عن المرويّ عنه. السؤال: هل يمكن أن نجد تمثيلات لهذا المفهوم في أدبنا العربي؟ في الحقيقة توجد ثمة أعمال تنتمي للسيرة النقدية حتى ولو لم يدرجها أصحابها إلى هذا المفهوم، فكتابات سليمان فيّاض التي جاءت تحت عنوان “كتاب النميمة” تنتمي إلى هذا المفهوم، وبالمثل ما فعله جلال أمين في كتابه “شخصيات لها تاريخ”، فهو لم يتوقف عند التاريخ الشخصي لنماذجه بقدر ما عكس صورًا من ذاته، وعلاقاته بالشخصيات وبسياقها الثقافي والسياسي.وقد يدخل ضمن هذا السياق ما كتبه إدوارد سعيد نفسه عن تحية كاريوكا في كتابه “تأمّلات حول المنفى” بعنوان “تحية إلى راقصة”. فالسيرة الغيرية لتحية بقدر ما هي صورة قلمية باذخة من ناقد ما بعد حداثي عن راقصة شعبية إلا أنه يرصد لنا وهو يروى عن هذه الراقصة جزءًا من مراهقته في القاهرة، فتتقاطع ذاته، تحديدًا مراهقته، مع إيروسية الراقصة التي يصفها وهي تقدم رقصتها في مسرح بديعة مصابني. تتقاطع لحظتان في المشهد المسرود، لحظة اكتشاف الشبق بداخله، خاصة وهو يعيش “في عالم الكبت الشديد” مع لحظة الغواية التي تقدمها الراقصة بتروٍّ مهيب. كما تظهر بين الحين والآخر اهتماماته الاستشراقية حيث يقارن بين وضعية تحية كراقصة ووضعيات الراقصات الرخيصات، بعد فورة النفط التي أتت بالخليجيين الأثرياء إلى مصر ولبنان حيث ملعب العالم العربي بآلاف الفتيات الجاهزات للعرض والإيجار. كانت تحية تجيد دور العالمة الذي كاد ينسى، وقد تحدث عنه زوّار الشرق من الأوروبيين في القرن التاسع عشر مثل إدوار لين وفلوبير. الأهم في جملة التقاطعات أنه عندما سألها عن أميركا التي زارتها، قالت “لقد أحببت الناس، لكنّني أكره سياسة حكومتهم” وهو نفس ما ذكره تودروف عن سعيد الذي كان يشعر بسجيته هناك (أي أميركا)، ويكره سياسة حكومتها المناصرة لليهود. كانت حالة البوح التي بدت عليها كاريوكا بعد أن فقدت مجدها، وصارت متدينة، بعد أربعين عامًا من اللقاء الأول؛ بمثابة إعادة لاكتشاف سعيد لذاته، فوفقًا لفروستر أن عملية البوح نفسها التي تماثل الاعتراف التي يقوم به شخص آخر، وبمشاركته في رحلته التي لم تتح له كقارئ، ولم تساعده (القارئ يتوازى مع المتلقي في حالة سعيد) في التعرف إلى نفسه، ويعترف بها بعد أن كُشِف الغطاء عنها بفعل الآخر. وهناك من يشير إلى أن رواية “المرايا” لنجيب محفوظ، التي أصدرها عام 1970، هي سيرة ذاتية لمحفوظ. وهو أمر يدعو للتأمّل. فالنص أشبه بصور قلمية، وإن كانت مموّهة عبر أسماء بديلة لشخصيات عاصرها محفوظ في حياته الوظيفية أثناء عمله في وزارة الأوقاف، وكذلك من الوسط الثقافي. وكما يقول الدكتور فهمي عبدالسلام، إن نجيب محفوظ في “المرايا”: “اعتمد شكلاً أدبيًّا يعتبر بكل المقاييس من المغامرات الكبرى، وابتكارًا خالصًا يُنسب إليه، فقد اعتمد شكل البورتريهات القصيرة المكثفة، بورتريهات منفصلة وفي الوقت نفسه متصلة ببقية البورتريهات”. يبدو المصطلح إشكاليًّا خاصة في ظل تنازع أنواع عديدة عليه، حيث تداخله مع السيرة الغيرية من جانب والصورة القلمية من جانب ثانٍ. وأيضًا لندرة التمثيلات التي تؤكّده وتدعمه. لكن الشيء المؤكّد أنّ معظم الكتابات التي تندرج تحته تختلف اختلافًا جذريًّا عن الأنواع المتداخلة معه.وهو ما يُعزّز لاستقلاليته وتفرّده أيضًا، واكتسابه لسمات جديدة مُفارقة لهذه الأنواع المتداخل معها، بتماهي الذاتيْن: الذَّات المروية والمرويّ عنها، وهو ما ما يجعل من الذات المروية أشبه بالمرآة كما عبّر جاك لاكان. وهو ما يدفع القارئ إلى تأمّل في آنٍ واحد، ذاتيْن لا ذاتًا واحدة، وهو شيء في حدّ ذاته مثير وشيق. فيكفي أن صارت السيرة واعية بذاتها وبقارئها لا مجرد اجترار وبوح لا يُفضي إلى شيء في كثير منه. فحسب نظريات علم النفس ما دامت رغبة الإنسان هي دائمًا رغبة في الآخر فإن الآخر ليس مجرد موضوع للرغبة، إنما هو من الذّات بمثابة المحلّل أو المصدر الذي تنبعث منه كل أحاديث لا شعورها.

مشاركة :