فى واقعنا الثقافى تختلط المفاهيم والأفكار، وتلتبس إلى حد إقامة النقيض محل نقيضه، والى حد تطابق الأضداد وتماثلها!!وفى ثقافتنا تتراخى المسافات بين المفاهيم المتباينة لدرجة تختفى معها أى فروقات معرفية أو دلالات لفظية، كما تختفى أى إحداثيات ابستمولوجية للمصطلحات وللمفاهيم، لدرجه تصبح معها فلسفة كالليبرالية مثلًا مطابقة تمامًا لنظرية كالرأسمالية!!ولا يثير ذلك دهشة فالفصل والتحديد والدقة أفعال انتساب للحداثة، وتلك الأخيرة لم ينتسب لها بعد «المثقف العربى» ولم يدخل إلى دروبها المنضبطة والحاذقة «العقل العربى» وتظهر بجلاء أهم تمظهرات الخلط بين المفاهيم والمصطلحات والقضايا المعرفية فى تناول المثقف أو السياسى العربى على وجه الخصوص لمقولتى الليبرالية والرأسمالية وتعاطيه معهما. وقد ينخرط المثقف أو السياسى العربى فى هجاء شديد لليبرالية بينما هو يقصد هجاء الرأسمالية والعكس، وهذا محزن وكاشف لضبابيه العقل العربى واختلاط المفاهيم ووتراخى المسافات بشده لديه، فشيخ الأزهر مثلا هو الدين، وعبدالناصر مثلا هو الجيش!!والليبرالية حسب صديقنا الكاتب المتفرد (شادى فؤاد) فى دراسته بصحيفة القاهرة « الليبرالية والمحافظة، حينما تتراخى المسافات « ةهى فلسفة تجلت صيرورتها الأولى فى الفضاء الثقافى الغربى منذ ما يقارب أربعة قرون مضت فرض إنتاجها وبروزها وبزوغها (بيئة احتراب أهلى ومذهبى وطائفى وصراع اجتماعى شرس يطرد الأغيار ولا يرضى بالمختلفين ولا يؤمن بوجود آخر آى آخر)،لذلك كانت محاولة التدشين الأولى للفكر الليبرالى حول مفهوم العقد الاجتماعى وانتقال من الحالة الطبيعية الفوضوية إلى الحالة المجتمعية من مجرد الاجتماع إلى المجتمع وحول مفاهيم التسامح وقيمه والحريات والحقوق الفردية ونبذ التعصب والوصاية على الآخرين.. إلخ.فكتب الإنجليزيان (هوبز ) 1650 عن العقد الاجتماعى و(لوك) رسالته فى التسامح سنة 1689، وكان لها بالغ التأثير إبان الثورة الإنجليزية (1688) ثم تاليًا لدى فولتير وروسو وكل فلاسفة الثورة الفرنسية (1789) ومن قبلها الثورة الأمريكية (1775). وتلخصت دعوة لوك للتسامح فى: ليس لأى إنسان السلطة فى أن يفرض على آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه، وأن الناس معرضون للخطأ، سواء أكانوا حكّامًا أم محكومين، فليس من المعقول أن يوضع الإنسان تحت التوجيه المطلق لأولئك الذين يمكن أن يقعوا هم أنفسهم فى الخط!!وإنه لا فائدة فى استعمال القوة لجعل الناس على الجادّة، لأنه لا يمكن لأى إكراه أن يجعل إنسانًا يؤمن بضد ما يقتنع به.. وأن الإكراه يخلق فقط المنافقين.وأكد لوك أن نجاة روح كل إنسان هى أمر موكول إليه هو وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلى أى سلطة مدنية أو دينية. وأن لكل إنسان السلطة العليا فى الحكم لنفسه فى أمور الدين. وأن حرية الضمير حق طبيعى لكل إنسان. وأن انتقال الناس من الحالة الطبيعية الفوضوية إلى المجتمعية تتطلب عقد اجتماعى قائم على المساواة والحرية وحكم الأغلبية وسيادة الشعب والفصل بين السلطات. وفى الليبرالية يقيم (الفرد) فى المركز منها وهو مبتداها ومنتهاها وموضوعها وحقوقه وحرياته هى منطلقاتها الأساسية وإزالة الضغوطات عنه هى هدفها الرئيسى بما فيها طبعًا ضغوطات النظام الرأسمالية.والليبرالية هى صيرورة لمزيد من صيانة حقوق الفرد وتحسين شروط وجوده وحياته وتطوير اجتماعه.أما الرأسمالية فهى كنظرية اقتصادية أو رؤية اقتصادية قد تؤول فى مساراتها إلى اقتصادوية محضه تعطى أولوية قصوى للحرية الاقتصادية على كل ما عداها من حريات سياسية أو غيرها، وقد تؤول فى دروبها إلى تكبيل الفرد والهبوط بشروط وجوده وحقوقه الأساسية من أجل اقتصادوية غائية لها كل الأولوية المطلقة على كل ما عداها. فإذا كان صون حقوق الفرد الأساسية وإزالة كل الضغوطات عنه هى الشاغل الأكبر لليبرالية، فإن حرية السوق وعدم التدخل فيه هما روح الرأسمالية ومبتغاها. وكما نستطيع أن نؤرخ لبدايات الفكر الليبرالى بكتابات الإنجليزيان (هوبز) و(لوك) ثم فولتير ورسو فى فرنسا وكانط الألمانى عن خروج الإنسان من الوصاية إلى الرشد، فإننا نستطيع أن نؤرخ لبدايات الطرح النظرى للرأسمالية بالاسكتلندى (آدم سميث) وكتابه (ثروة الأمم) فى 1776م وكذلك الإنجليزى ريكاردو وكتابه «مبادئ الاقتصاد السياسى والضرائب، وديفيد هيوم (1711-1776 م) وكتابه عن نظرية المنفعة، ومالتوس (1766-1803) الاقتصادى الإنجليزى المعروف ونظريته عن الفجوة بين النمو السكانى والنمو الزراعى والإنتاجى. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحدث عن الرأسمالية دون (سميث) لا نستطيع أيضًا أن نتحدث عن الليبرالية كفلسفة متجاوزين الليبرالى الإنجليزى الكبير، والذى يعد من أكثر المعبرين عن جوهر الليبرالية، والمدافع الشرس عن الحرية الفردية (جون استيورت ميل) (١٨٧٣/١٨٠٨)الذى وضع الأساس النظرى لليبرالية الكلاسيكية فى كتابه الأشهر عن (الحريه) وكتابه عن (أسس الليبرالية السياسية) وكتابه (استعباد النساء) وصاحب المقولة الشهيرة (إننا إذا أسكتنا صوتًا واحدا فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة). وبينما توازن الليبرالية بين الحريتين السياسية والاقتصادية ولا تعطى لإحداها أى أولوية على حساب الأخري، ولا تقبل بجور الحرية الاقتصادية على الحرية السياسية نجد الرأسمالية تعطى أولوية قصوى للحرية الاقتصادية على ما عداها من الحريات. وقد تتلامس الفلسفة الليبرالية مع الرؤية الرأسمالية فى الحقوق الاقتصادية (كالحرية فى التملك والتبادل والعمل والتجارة) وفيما خلا ذلك تعارض الليبراليه آليات السوق الحرة حينما تشعر بظلم على الأفراد أو خلل فى تحقيق العداله الاجتماعية فترفض الاحتكار وتمنعه ولا تصفق للمحتكر كما تفعل الرأسمالية، وتسعى إلى ضبط التنافسية وتؤمن بدور الدولة كضابط ومنظم للسوق ودورها فى منع الاحتكار وهى تتحفظ على شعار الرأسمالية العتيد (دعه يعمل دعه يمر). وتؤمن بضرورة وجود شبكة ضمان اجتماعى. الرأسمالية رؤية محض اقتصادوية وهى قد تتحول إلى أيديولوجيا «خلاصية» تختزل العالم فى مجرد سوق وتعدك بالخلاص والفراديس. أما الليبرالية فهى لا تعدك بشىء هى فقط تسهر على حقوقك وترفض المساس بها، وتسعى لإزالة الضغوطات عنك حتى لو كانت ضغوطات الرأسمالية أو غيرها. كذلك لا يخفى على مدقق ذلك البون الشاسع بين العدالة الاجتماعية من منظور ليبرالى ومن منظور رأسمالي، ناهيك عن مكانة العدالة الاجتماعية فى الفكر الليبرالى ومركزيتها- راجع كتب المفكر الليبرالى الأمريكى الكبير (جون راولز) والمتوفى ٢٠٠٢.نظرية العدالة، الليبرالية السياسية، قانون الجماعات البشرية، العدالة كإنصاف.
مشاركة :