ماذا حدث لنا؟ سؤال يتكرر عند الكثيرين في مرحلةٍ قد قتلت القيم والمبادئ وحتى المودة والحب الحقيقيين ودفنتها في مقابر جماعية. نزعتها كلها من القواميس وزرعت مكانها وصفات حديثة وكلمات منمقة لا رائحة لها ولا طعم سوى أنها تتماشى مع عولمة زائفة ولا أخلاق أو احترام، حتى الوفاء أصبح «موضة قديمة» أو «دي موديه»، كما يفضل البعض فرنجتها وفرنجة كل أيامنا ليقبلنا العالم. أصبحنا في خانة الاتهام حتى نثبت أننا «تحدثنا» أي أصبحنا حداثيين نواكب العالم المتحضر! الذي هو نفسه يدفع ثمن باهظاً ويعيد حساباته في التغييرات السريعة التي حصلت لمجتمعاته في فترة ما بعد الثورة الصناعية ثم العولمة. لم تعد الثقافة مقتصرة على حدود، ولم يعد الاستعمار بالدبابة والأسلحة «الشديدة الذكاء والدقة!» بل أضيف إلى ذلك سلاح أكثر فتكاً وتدميراً، هو سلاح استعمار العقل واختراق كل القيم والمبادئ واستبدالها بنمط من الأنانية والمصالح والزيف الذي يزين بصفات من الجمال والجاذبية... وهذه ليست من تبعات نظرية المؤامرة بل هي تهمة للعرب، لنا نحن قبل الآخرين كما تقول أم كلثوم «العيب فينا وفي حبايبنا» هي تحدثت عن أجمل ما في الكون، الحب، وهنا نستخدمها لأقبح ما في الكون اليوم. يتناول الجميع تلك الصفات، كما يتحسرون على الماضي الجميل، أو كما يتفرجون على أفلام الأبيض والأسود، ليرددوا «كم كانت تلك مرحلة جميلة وصافية» كما السماء في يوم ربيعي مشرق. ثم ينتقلون إلى ما هم فيه، في كل لحظة يتخلون عن قيمة من القيم ويخففون حملهم التراثي ويلبسون «اللاقيم» ويرددون: هكذا تستطيع العيش، أو يبررون بأنه زمن البقاء فيه للأقوى لا للأكثر طيبة ومحبة وعطاء... حتى مفهوم العطاء وُضِع في قوائم المقايضة «ما هو المقابل يا أخي؟!»، يردد أحدهم بنظرة التاجر «الشاطر» في مفهومهم، «الخبيث» والمتدني في الأخلاق بمفهوم ذاك الجيل القديم الذي انقرض تدريجياً أو تقوقع على نفسه، حتى حبسها في دائرة ضيقة جداً تضيق شيئاً فشيئاً فشيئاً حتى لا يبقى سوى الفرد وذكرياته وبعض الأمل بنهاية أكثر كرامة من ذل الحاضر. لا تعتبوا علي إن جاملتهم، يقول بعضهم، فلا أمل لي في الترقي الوظيفي أو الانخراط المجتمعي في شريحة «النخبة» أو حتى احترام البعض لي سوى أن أسير في ذات الدرب الذي يمضي فيه الجميع كالقطعان دون تفكير في بعض الوقت، وبكثير من التخطيط والحنكة ومعرفة «من أين تؤكل الكتف» في كثير من الأوقات. يجرون في الحياة كالوحوش البرية بحثاً عن فريسة أو فرصة، وفي طريقهم تسقط الضحايا وتداس تحت الأقدام وأحيانا تتحول إلى فريسة للقطيع! كأن الحياة لا نهاية لها، هم يسرقون اللحظات ويتصورون أنهم قادرون على شراء كل شيء كل شيء حتى الاستدامة اللا متناهية وإطالة العمر... يقهرون السن والفقر والجهل وكل المعضلات بكثير من المال والعلاقات مع صانعي القرارات والمتحكمين في العباد وفي الثقافة الجديدة، المتحدثين بلغة لا يفهمها إلا من انضم إلى نفس ذاك القطيع أو لنسمِّها، تخفيفاً لوقعها على السامع، بالقبيلة الجديدة أو الطبقة الحداثية. يتشابهون في كل موقع، يتوحدون على مساعدة بعضهم في تبرير كثير من تصرفاتهم ونمط الحياة التي يعيشون. يسقط أمامهم الضعيف فيضحكون إلى حد القهقهة على غبائه أو غبائها، لأنهم لا يزالون «طيبين»، وهي حقيقة كلمة وصِفة عفا عليها الزمن. يتساءلون: «ماذا تريد؟ ولماذا تمسك السلم بالعرض» ثم ينصحونك بشفقة «مشي حالك»، وتبقى وحيداً يسقط أمامك حتى أكثرهم قربة، لا تكترث للأعداء فأنت كفيل بهم، بل عليك أن تخشى الأصدقاء المتلونين، الباحثين عن الشهرة والرفاهية المصطنعة مثقفي الصالونات ومبدعي تلميع القبح وتعليبه في علبة من القطيفة. يخرج بعضهم من دائرته الضيقة، وهو يبحث عن وجوه كان متصوراً أنها لا يمكن أن تتلوث رغم سحابة الدخان الملوث التي يتصورها البعض سحابة صيف، يرحبون به مطلقين عليه «دونكيشوت» أليس هو من يحارب الطواحين؟ أليست هي من تقف وحيدة أمام جحافل المنتقدين، الساخرين، الذين يستصغرونها مرة لأنها لا تزال «متحجرة» ومرات لأنها امرأة من ذاك الزمن الآخر بينما النساء اليوم يتحلين بالسليكون والبوتكس وكثير من المساحيق حتى اختفت معالمهن وأصبحن متشابهات إلى حد صعوبة التفرقة بينهن. كتب ذاك العملاق قبل رحيله «ماذا حدث للمصريين؟»، كان على جلال أمين أن يلحق ذاك الكتاب بآخر يحمل عنوان «ماذا حدث للعرب؟» أو «ماذا حدث للبشرية والإنسانية؟!». * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مشاركة :