أن ترى الحياة باعتبارها مسرحا يشبه أن تنظر إلى المسرح باعتباره طقس حياة. في الحالين تخلص إلى ما يشدك خارج ما تراه مباشرة. إنه نوع من تأويل المعاني التي تخفيها الصور. أنت تذهب إلى مناطق لا تراها بقوة ما كنت رأيته في أوقات سابقة، من غير أن تكون معبّأً بأفكار مسبقة وجاهزة. وهو ما يعني أن تكون مستعدا للقاءات هي على درجة كبيرة من الغموض الذي يُسعدك. من أجل سعادة أن يقف عند حافات المعنى تلك، يرسم أحمد معلا. على مرأى مِن الجموع وهي تمارس طقوسها هناك فكرة تكمن في الإيقاع السحري، هي الفكرة ذاتها التي يحملها الفرد عن نفسه بعد أن تخلت عن شروط وضعها البشري. جموع بلا ماض على المسرحالاستعراض الذي يستلهمه معلا من منظر الحشود البشرية تتجلى قيمته في الممارسة الروحية التي تنسف قدرة الجسد المفرد على التعبير. لن يتساءل أحد من تلك الكائنات “ما الذي قد فعلت بنفسك؟”، الماضي يتراجع وهو ما يشجع معلا على التفكير في مستقبل كائناته التي تعبر عن حاجتها إلى البقاء، لكن في حيز مسرحي ضيق. يعالج معلا “صدمة الفرد” بغربته عن طريق الإلقاء به في خضم حدث لا يفصح عن هدفه. وهو من خلال تلك المعالجة الصارمة تقنيا يخلق حدثا مجاورا. وهو ما يمكن أن يساعدنا على فهم مغزى الرسم. يرسم معلا الجموع وفي ذهنه فرد واحد. هو ذلك الفرد الهارب بتعاسته من أجل القبض على سعادة مؤقتة. شيء ما يشبه النسيان. وإذا ما كان الفنان قد لجأ في عدد من لوحاته إلى استعمال الكلمات بأسلوب “الخط العربي” فلأنه كان يبحث عن معادل موضوعي يضع من خلاله الكلمة مقابل الإنسان. يستخرج صمتا استثنائيا من الصخب الذي تعيشه الحشود وهي تمارس طقوسها واقعيا. ولأنه لا يرى في المسيرات ما يُرسم فإنه قرر أن يوقفها على مسرحه. تلك لحظة يمكن أن تستمر إلى الأبد. لن يتساءل أحد عن معنى كل ذلك الضياع. غير أن تجهيز تلك المسيرات بالصمت قد يكون هو الفعل الذي يهب ذلك الضياع معنى الشرط البشري. الآن وأنا أكتب في عام 2019 تبدو رسوم معلا مثل نبوءة. كان الرسام حارس اعترافات شخصية هُدرت في حقول من الألغام. ولد معلا في بانياس عام 1958. تخرج عام 1981 من جامعة دمشق. انتقل بعدها إلى باريس ليحصل على شهادة الدكتوراه من المدرسة الوطنية للفنون الزخرفية. وحين عاد إلى دمشق درّس في كلية الفنون الجميلة التي تخرج منها بين عامي 1989 و1996. اهتم كثيرا بتصميم الكتب وكان يظن يومها أن التصميم سيغنيه عن بيع لوحاته، ولم يكن ظنه في محله بالرغم من أنه صمم عشرات الكتب بأسلوب طليعي. ذلك ما دفعه إلى أن يختار أن يكون رساما متفرغا. أقام أول معارضه الشخصية في دمشق عام 1988. بعده أقام معارض شخصية في باريس والكويت وأثينا والمنامة وإسطنبول ودبي وبيروت وفي العديد من المدن السورية. “أعمالي ترجمة لفكرة أنني لا أريد أن أشتغل في خدمة أحمد معلا” يقول، ليجعلنا ننصت إلى إيقاع خطواته رساما وهي تبتعد عن الشخص الذي صنع أوهام حياته من مادة لينة. لا يستهين معلا بحرفته. إنه رسام بالرغم من أن لوعته تكاد تخرجه من طوره. يصر على قواعد الحرفة. موهبته تكمن في صنع انسجام خفي بين تمكنه الخفي وانفتاحه على خيال سيهبه إطلالة واسعة على المشاهد التي يرسمها. لقد كان على الفنان أن يكدح من أجل أن يتحرر من معلا المتمرد والمشاكس والغاضب والاستثنائي في عصيانه. وهو في ذلك إنما يهبنا نموذجا للرسام الذي يرعى صوره كما لو أنها من اختراعه، وهو يعرف أن فكرته عن العالم تقف وراءها. المتمرد على الصورةمعلا هو رسام مشاهد لن تحدث إلا مرة واحدة. وهي المرة التي تقع على سطوح لوحاته. لا تقع الحادثة في لوحات معلا إلا بعد أن تقطع صلتها بالواقع. سيكون من حق الرسام حينها أن يعتبرها جزءا من مقتنياته. معلا يسابق أثره إلى واقع لم يعشه غير أنه يحتفظ بذكرى منه في خياله. “أنا متمرد قبل كل شيء على نفسي، وليس على أي أحد آخر. الرغبة في أن أكون حرا هي القضية. فعندما أصبحت محترفا في الفن أصبحت هذه قضية أسعى للتمرد عليها، فحريتي تفوق أنني فنان محترف” يقول. حين حاول معلا أن يستلهم نصوصا أدبية قديمة وحديثة؛ المعري والمتنبي وسعد الله ونوس، كان التمرد على تلك النصوص خطوته الأولى في التعرف عليها صوريا. فهو لم يكن ينوي التعريف بتلك النصوص أو توضيحها بل الاسترسال بها، لكن بطريقة مضادة. إنه يستأنفها من حيث انقطعت صلتها بالمرئي وحلقت في فضاء اللغة. وكما يقول فإنه يتقصى حدود الحالة لا القول، وهو بذلك ينشئ علاقة خفية بما لم يظهر من النص. ما أخفاه النص وتستّر عليه. ذلك هو هدف الصورة من أجل أن تكون مرآة إلا لما يتشكل داخلها باعتباره حدثا خالصا. ضد الكمالغير أن معلا في الجانب الأكبر من تجربته هو فنان متمرد على ما يصوّره. ففي الكثير من المشاهد التي يلتقطها من الأحداث العامة، هناك ما يشير إلى أن شيئا ما يقع لا يمت بصلة إلى تلك المشاهد. شيء يمعن في استقلاله كما لو أنه يسعى إلى أن يعيد صناعة الحدث باعتباره واقعة متخيلة. ينظر معلا إلى تلك المشاهد باعتبارها المادة الخام التي يستعملها من أجل إنشاء عالمه. ذلك العالم الذي حين ننظر إليه فإنه لا يعيدنا إلى الأصل، إلا في حدود الحكاية التي يمكن اختصارها بجملة. فمعلا ليس رسام حكايات غير أنه مع ذلك شغوف برواية حكايته مع الرسم من خلاله. يمارس معلا في رسومه فعلا إخراجيا. وهو تعبير يمكن أن يعترض عليه. غير أن ذلك ما توحي به لوحاته. في كل لوحة هناك درس عميق في الإنشاء. من الصعب النظر إلى لوحاته من غير تتبع فصول ذلك الدرس. إنه يضع الأشياء والكائنات في مكانها كما لو أنه يمهد لها أن تكون موجودة بالطريقة التي تخيلها. ربما يقف معلا ضد رغبة تلك الأشياء والكائنات إلى أن تصل كمالها. ذلك ما يذكر بسلطته رساما. وهي السلطة التي يمارسها معلا باعتبارها صدى لحريته. فما يعجبه في المشاهد التي يرسمها أنها تنسجم مع أحلامه. إنها توحي له بالصور التي سبق له وأن رآها. ولهذا يمكن القول إن معلا يرسم ما يراه وما يحلمه في الوقت نفسه. وهو من خلال ذلك الانسجام إنما يسعى إلى أن يكون مخلصا لنفسه ولفكرته عن الرسم باعتباره نوعا من الخلاص من الواقع. معلا يهبنا درسا في الرسام الذي يتمرد على حرفته، من غير أن يدير ظهره لها، وهو في ذات الوقت يمعن في تماهيه مع الواقع من غير أن يكون واحدا من شهوده.
مشاركة :