الثناء على الأموات وإطراء الأحياء!

  • 8/7/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يكثر نقد الحنين إلى الماضي، في الثقافة العربية، حتى ليجعله البعض علة الجمود وعدم القدرة على التقدم الفكري والعلمي والأدبي، لأن «الماضي» في مفهوم الغالبية هو الذي يحدد إطار القيم ويرسم حدود الفضائل، ويثقل الرحلة إلى المستقبل بكثرة المحاذير، وكلما ابتعدت المجتمعات عن «ذاكرتها» أصابها رهاب المجهول وتعثرت خطواتها وفقدت البوصلة. وأن الحنين إلى الماضي وصرف الفضائل إلى ما تركه الأموات، هو الذي يعرقل التطلع إلى الآفاق الرحبة، ويشغل الناس عن العيش في الحاضر، بما فيه من قوى إيجابية وإمكانات تمكنهم من عبور نهر التردد. ومن مظاهر النزوع إلى الماضي وتقديره والاحتماء به، أنه كلما غاب صاحب فكر أو علم أو أدب أو فن، خلع عليه المجتمع ما لم يكن فيه من المواهب والقدرات وأكسبوه من المكانة والتأثير ما لم يفكر فيه وهو على قيد الحياة، وانهالت على شخصه ونتاجه الأماديح وقصائد الثناء وأناشيد الإجلال والتعظيم، وتسابق الناس لإظهار بدائع عبقريته، ترتفع الأصوات وتشرع الأقلام وتنطلق الألسنة بالثناء على الراحل وإطراء صنائعه ومآثره. ولا أحد يريد أن يجادل في الثناء على الأموات أو يبخل عليهم، بما يستحقون، أو التغافل عن الطبيعي والمقبول من أخطائهم وعثراتهم، على طريقة «أكرموا محاسن موتاكم» تطييبا للخواطر وتشيعا لرحلة انتهت ولم يعد لأصحابها حضور إلا بما تركوه من صنائع المعروف أو منافع لمجتمعهم أو آثار فكرية وعلمية وفنية أسهمت وتسهم في استمرار الخطى على الطريق الذي اصطلح المجتمع على صلاحيته، لكن أثناء هذا «التوديع» الحافل بالإطراء للراحلين، بالمستحق وغير المستحق، تبرز أصوات تتساءل: أين كنتم يوم كان صاحب هذه الفضائل والمواهب يعيش بينكم؟ لماذا لم تظهروا تقديركم لفكره وعلمه وإبداعه، يوم كان حيا ينتفع بما تقولون، ماديا ومعنويا؟ لماذا تغافلتم عنه أو تناكرتم حقه ومكانته وفضله، حتى إذا لم يعد منتفعا بهذا التقدير تسابقتم في ميدان الثناء عليه، كل يريد السبق ولا سبق يفيده؟ وهذا الصوت «اللائم» له أنصاره ومؤيدون، وقد تكون لهم الأغلبية بدليل شيوعه واستمراره وتكراره من وقت إلى آخر مع رحيل أحد المشاهير في المجتمع، وهو رأي يحمل وجهة نظر تتغذى على بعد إنساني يرى أن الأحياء أولى بالتعاطف والتقدير من الأموات، وأن النماذج المبدعة، على قيد الحياة، والتي تعاني من الأمراض والحاجة وضغوط السنين، أحوج إلى لفتة المجتمع ورعايته واحتضان مؤسساته، من الأموات الذين لا يعنيهم ما يقال عنهم ولا يستفيدون منه. ويبدو أن لهذا الرأي وجاهته وله من يحاجج عنه، لكن ماذا عن الرأي الذي يرى «الاقتصاد» في الثناء على الأحياء وعدم التوسع فيه؟ ويتساءل: ما هي حدود الثناء عليهم؟ ومن يضع تلك الحدود ويضبط سقفها، حتى لا تتجاوز إلى ما لا يقبل، وهل هذه الضوابط يمكنها تحديد ما يستحق الثناء من أفعال ومنجزات الأحياء أم هي «مفتوحة» تتسع وتضيق و تتكيف، بحسب المثني والمثنى عليه؟ ثم يأتي السؤال الأهم، في هذا السياق: ما هي آثار اتساع الثناء على الأحياء وإطراء أعمالهم في الثقافة والمناخ الفكري ومدى تأثيره على «سلم الأخلاق» العامة، خاصة حين يتعلق الأمر بالثناء على أولئك الذين بيدهم مصالح الكثيرين من المحيطين بهم؟ قد لا تختلف الغالبية من الناس على أهمية تقدير منجزات المبدعين الأحياء وأن الاعتراف بفضلهم وتثمين أعمالهم وتسليط الضوء عليها وإظهار قيمتها واعتزاز المجتمع بأصحابها، يمنحهم الرضا المحفز لمزيد من الإنجاز، لأن جهودهم لم تذهب عبثا، وأن مثابرتهم وتفردهم يدركه من حولهم ويعرف قيمته، وهذا يدفع المبدعين والمبتكرين إلى نشدان التجويد والتجديد والسعي إلى الكمال، كل في مجاله ونطاق اهتمامه، وأن تقدير عمل الأحياء ومكافأتهم على ما أنجزوه – خاصة عند الحاجة – يؤكد مسؤولية المجتمع ومؤسساته عن رعاية البارزين من أبنائه، وأن هؤلاء المتميزين سيجدون من يقف معهم ويشجعهم ويأخذ بأيديهم، ومن ثمرات هذا المنهج وحسناته أنه يقدم «القدوة» العملية للأجيال الصاعدة، وهي ترى روادها وأساتذتها وآباءها من المفكرين والمخترعين والمثقفين، والفنانين، يلقون رعاية المجتمع واهتمامه، وهكذا تستمر «دورة» التحفيز والتقدير لتشكل «نهرا» يصب في «بحر» تقدم المجتمع وتطوره. كل هذا له نصيب من الصحة والوجاهة وله قيمته وتأثيره على تفعيل القوى الإيجابية في مسيرة المجتمع، والدعوة إلى رعاية الموهوبين والمتميزين، ولكن – وأعلم أن هذه «اللاكن»- تزعج الكثيرين لأنها، في نظرهم، «تضع العقدة في المنشار» وتعكر نقاء الفكرة وتعرقل انسيابها، ومع تقديري لهذا وحرصي على وضوح الفكرة ونقائها وتخليصها من كل ما «يشوش» إلا أن بعض أساليب الثناء على الأحياء ومظاهر تقدير ما أنجزوه يسيء – في نظري – إلى القصد السامي الذي يهدف إلى إبراز أهل التميز وأعطاهم ما يستحقون من التقدير والاحتفاء، فشيوع المدح والإطراء والثناء «المجاني» وإعطاء الألقاب غير المستحقة منهج «فاسد» وأسلوب ضار يخلط الأوراق ويضيع المعايير وتختفي معه دقة المقاييس الموضوعية، فيقدم «المتأخر» ويصيب «المتقدم» بالإحباط حين يرى من هو دونه يتصدر المجالس ويتقدم سابقيه بألقابه الزائفة. والخلاصة: الثناء والتقدير، للأحياء والأموات، تعبير عن الوفاء والاعتراف بالفضل، وهو سلوك تحكمه قيم الصدق والموضوعية لتحفيز حركة المجتمع ومبدعيه لمزيد من الإنجاز، وإذا انحرف عن قصده وفسدت وسائله وأعطي لمن لا يستحقه، فقد الناس فيه الثقة وضعف تأثيره في نفوس من يظن أنه ينفعه، فلنقتصد في هذا حتى لا تفقد المعاني الجميلة روحها والقيم الأصيلة إشعاعها وسريانه في روح المجتمع. * كاتب سعودي.

مشاركة :