عندما تحدثنا عن تهافت النقد الأكاديمي، عاب علينا أحد أصدقائنا الجامعيين خلطنا بين علم الخطاب الذي يضم البحث في ما به يكون النصّ أدبيّا، أي الشعريّة، والعلاقات التي تقيمها النصوص في ما بينها، أي التناصّ، وتحليل جميع مكوّنات الأثر، أي العتبات، وبين تذوّق الأثر الأدبيّ وتقريب أسرار بلاغته ودلائل الفنّ فيه إلى القرّاء؛ أي بين الخطاب النقدي كدلالة اصطلاحيّة تقنيّة تكوّن لغة ثانية يتعامل بها أهل الصناعة، وبين المعنى المتداول للنقد الذي يوهم بأنه يتوجّه إلى الجميع؛ فلا يمكن في اعتقاده تسوية النقد الأكاديمي بالنقد الصحافي، كما لا يمكن لفيلسوف أن يناقش رأي فيلسوف آخر في صحيفة يومية على سبيل تبسيط المعرفة. ولنبدأ بالنقطة الثانية، ليس صحيحا أن الفلاسفة لا يناقشون بعضهم بعضا في الصحف اليومية، بخطاب مبسَّط يفهمه الجميع. حسبنا أن نقرأ “مجلة الفلسفة” الفرنسية، التي يردّ فيها بعض الفلاسفة حتى على أسئلة الأطفال، أو نتابع مقالات الفيلسوف روجي بول دروا في صحيفتي “لوموند” و”ليزيكو”، ومجلة “لوبوان” لندرك أن كل المصطلحات يمكن شرحها، وكل المفاهيم يمكن تقريبها للقارئ العادي، فمن يمسك بزمام مادته وبأعنة الخطاب قادر على تقريب المفاهيم الأشدّ تعقيدا لكل راغب. يقول أينشتاين “إن لم تستطع أن تشرح مفهوما لطفل في السادسة من عمره، فمعناه أنك لم تفهمه تماما”.وهذا يقودنا إلى النقطة الأولى، لُبِّ خِلافنا، وهي أن التهافت الذي عنيناه ناجم عن قصور في تمثل المناهج الغربية، أدّى بدوره إلى تهافت في تطبيقها على نصوصنا العربية، أي أن مأخذنا لا يتوجه إلى ما يُدرس في الحرم الجامعي من مناهج وما يُكتب في مجلاتها المحكّمة من مقالات ودراسات صيغت لخاصّة الخاصّة، وتتكئ في الغالب على ما يجدّ في الغرب من مناهج، وإنما هو موجّه بالأساس إلى اتخاذ جانب من الأكاديميين تلك المناهجَ شبكةَ قراءةٍ يسلّطونها على نصوصنا بشكل آلي لا يميز بين غث وسمين. وينشرون مقارباتهم في المجلات الثقافية مذيَّلةً بثبت للمراجع والهوامش يعادل أحيانا حجم المقالة، لتأكيد طابعها العلمي، دون أن يملك ذلك النقد جرأة النقد الصحافي (نقصد الجدير منه بهذه الصفة) الذي يقيّم العمل، سلبا أم إيجابا، فالنقد الأكاديمي كما جاء في موسوعة يونيفرساليس “يَنبذ إصدار الأحكام، لاسيما إذا كانت بشكل جليّ؛ ففي الجامعة يرتكز النشاط على البحث في الأدب، والوصف، والتحليل، والتأويل، والارتهان إلى أحكام الآخرين”. بين الشعرية والتناص لا نخفي القول إننا لا نجد في تلك المقالات التي تزعم البحث في الشعرية والتناص والعتبات ما يحيل على قيمتها الإجرائية. ولنأخذ العتبات مثالا لتهافت النقد الأكاديمي عندنا، كما وردت في مقالة لباحث أكاديمي تونسي عن رواية لكاتبة خليجية. جاء في مقالته أن شعريةَ خطابِ العتبات نوعان، خارجية وداخلية، فأما الخارجية فبدأها بعتبة التحديد الأجناسي، ذاكرا أن “الكاتبة عينت انتماء نصها إلى جنس الرواية فحصرته في خانة أجناسية محددة، وأنجزت بذلك عقدها مع المتلقي بأن أثبتت هوية نصها الذي ينخرط ضمن مسالك التخييل، وفي ضوئها يجب أن يُفهم ويُؤوّل”. تلتها عتبة المؤلفة التي “عمدت إلى إثبات هويتها المرجعية بخط سميك اختارت له اللون الأسود، ذات لون الحجاب، وكأنها تمارس فعل الكتابة من خلف حجاب، مخافة ارتكاب المحظور إن هي نزعته في مجتمع ذكوري يحرّم على الذات الأنثوية الكشف والمكاشفة”، ثم عتبة العنوان التي تمثل في رأيه “مفتاح النص للمتلقي”، وأخيرا عتبة الصورة، وهي “نص مكثّف دالّ بألوانه وأشكاله ورسومه.. ينفتح على إمكانيات تأويل متعددة”. تحديد أجناسيما التحديد الأجناسي فهو ليس قاعدة عامة، فكم من سلسلة لا تحدد جنس الكتاب، سواء في أوروبا وأميركا أو في بلاد العرب، ولا نذكر أن عبارتي “رواية” و”قصص” تصدرتا أغلفة أعمال نجيب محفوظ، لأن جنس النص يُستدل إليه بالمتن وعناصره. كذلك صورة الغلاف، فدور النشر الفرنسية الكبرى مثلا من النادر أن تدرجها، بل تكتفي بتأطير الغلاف بلون يميز كل دار. وقد تطبع على غلاف الطبعة الثانية صورة، فأي العتبات نختار حينئذ؟ ومثله العنوان الذي يعتبره المفتاح الضروري لسبر أغوار النص والتعمّق في شعابه، والأداة التي بها يتحقّق اتساقه وانسجامه ومقروئيته. وهذا مبالغ فيه حدّ الشطط، فلئن كانت بعض العناوين مناسبة للمتن الذي تفتح عليه، فإنها في أحيان كثيرة لا تحيل على أي شيء، مع أنها تعلن عن روائع أدبية مثل “جان آير” لشارلوت برونتي، و”ديفيد كوبرفيلد” لتشارلز ديكنز، و”ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشل، و”بدرو بارامو” لخوان رولفو. وعندما سئل أمبرتو إيكو عن “اسم الوردة” الذي لا ينبئ بأجواء روايته الشهيرة، قال إن العنوان ينبغي ألاّ يكون أحادي المعنى يفرض فكرة مسبقة عن النص، بل ينبغي فسح المجال لتعدد القراءات. وهو ما لم يفلح فيه أي ناقد، وظل العنوان لغزا رحل مع صاحبه. كذلك عتبة المؤلف، فما كتبه صاحبنا يوهم بأنه لا يعرف صناعة الكتاب في أوطاننا، فليس المؤلف من يختار الخط ولا لونه وحجمه فضلا عن الصورة التي عادة ما تُستلّ مما هو متوافر على الشبكة، بل الناشر. ومن ثَمّ يبدو ربطُه اللونَ الأسود بالحجاب والمجتمع المحافظ الذي يحرّم على المرأة أن تبدع موقفا مجانيّا يُسقط تصوّرات مُنشِئه على واقع معلوم. فما قوله لو كان المؤلف رجلا كُتب اسمُه باللون الأسود؟ ثمّ مرّ بعدها إلى العتبات الداخلية، فأورد منها اثنتين هما عتبة الإهداء، فذكر أن المؤلفة أهدت كتابها إلى زوجها وأولادها، ما يعني بالنسبة إليه أنها كشفت عن حضور الذاتي في نصها، فأشّرت إلى بعض سياقاته الذاتية والمرجعية، وكلنا يعلم مدى حضور الذاتي في أي عمل إبداعي حتى وإن خلا من الإهداء، الذي يتجنبه في الغالب الكثير من الكتاب. وعتبة التصدير التي استخلص منها “مؤشرات دالة على المدارات الأساسية في روايتها: الذاكرة الفردية والجماعية، الآخر، الرجل والمجتمع والمكان المتعدّد الذي احتضن وجودها الفردي والاجتماعي”. ولسائل أن يسأل ما وجه الإفادة التي يحصل عليها القارئ من هذه العتبات وهذا النقد الذي يضفي عليها ما ليس فيها، تمثلا، بل امتثالا لنظرية جيرار جينيت صاحب الجناية الكبرى على نقادنا الميامين؟ وما جدوى منهجية جعلت لدراسة الأشكال الأدبية دراسة آلية يستوي أمامها الجيّد والرديء؟ جميل أن نعنى بأشكال النصوص وبناها، ولكن شرط ألا ننسى أن غاية النقد إبراز قيم الكتابة الإبداعية وسبر المعاني التي تحملها في علاقتها بالإنسان والعالم.
مشاركة :