هل أتاك حديثُ إشبيلية؟

  • 5/5/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

أتذكر أول رحلة لي نحو الجنوب الإسباني سنة 2007، كنت يافعاً حينها، ولم أجد الوقت لألتقط صوراً وأسجل ذكرى للمكان، لكنني أتذكر فرحتي وسروري هناك. مرّت سبع سنوات؛ ليضعني القدر على متن الحافلة، ويلزمني بتغيير محل سكني من برشلونة إلى إشبيلية، التي أسرني سحرها منذ خطواتي الأولى في محطة القطار. رائحة براعم البرتقال تدلك على كمية الأشجار هنا وهناك، جو معتدل، وسماء زرقاء تتوسطها شمس تنعكس أشعتها في مياه الوادي الكبير؛ لينثر في وجوه السياح الفرحة والاستمتاع بأجمل مدن الدنيا، أعلم هذا الإحساس وهذه الابتسامة، لقد عشتهما في هذا المكان من قبل. أخذت سيارة أجرة وأعطيته عنواني الذي حسب قوله يوجد في منطقة جميلة وهادئة. سألني من أي مدينة أنا؛ نظراً للكنتي الشمالية الواضحة، وراوغني بسؤال آخر كان السبب فيما أكتبه لكم الآن: "لمَ تركت مدينة كبيرة كبرشلونة وأتيت لتعيش هنا؟ هل أتى بك الحبّ؟". ابتسمت وحاولت أن أراوغه أنا الآخر: "نعم، هو الحبّ يا صديقي، لكن سؤالك هذا ليس مجرد صدفة، أجزم أن حالتي عبارة عن ظاهرة متفشية عندكم". ردّ بسرعة قائلاً: "من لم يعشق فتاة إشبيلية لم يذُق العشق بتاتاً". كذبت عليه طبعاً، لم يكن الحبّ، بل فرصة عمل انتظرتها سنة كاملة في أحد المكاتب المعمارية، تلك المهنة النادرة نظراً لانفجار ما يسمونه هنا "الفقاعة المعمارية"، أي موجة البناء التي اجتاحت إسبانيا نهاية القرن الفارط، والسنوات الأولى من القرن الجديد، والتي توقفت بسبب النكسة الاقتصادية سنة 2008. يبدو أن تخرجي في جامعة مرموقة ومشهود لها لنعمة شفعت لي في مثل هذه الظروف الضنك، أو ربما الحظ. مرّت ثلاثة أشهر على وجودي في هذه المدينة الأخاذة التي تحتوي الكلّ؛ ليصبحوا بسرعة عارفين بالبئر وما تحتويه، كالعادة، الفصول لا تتحرك هنا، نعيش في صيفٍ وربيع طيلة السنة.. لا بأس، فأنا لا أحب المطر في كل الأحوال. أقف في نفس المحطة، وأرى نفس الوجوه يومياً: عابسة وصفراء تنبعث منها رائحة التبغ الرخيص بمذاق الموت ورائحة السرطان والسل، نفس البيوت الصفراء المتهرئة والمترهلة هي الأخرى، وبالتأكيد نفس الفوطة المعلقة في إحدى النوافذ: ما الذي يفعله الهولنديون في هذه الصحراء؟ كيف يتحملون حرّها؟.. مهلاً! هل هذا رجل مغربي يتحدث في الهاتف؟ نعم، هو مغربي، لماذا لا يشتري فوطة إسبانية على الأقل ما دام لا يعتز بعروبته؟ ما المثير والمميز في فوطة تحمل العلم الهولندي؟ أهو نوعٌ من الهروب النفسي من دولة السبعة ملايين عاطل والمليوني مشردٍ والمليون طفلٍ غير ممدرس، ويعاني من سوء التغذية (إسبانيا) إلى دولةٍ الحيوانُ يعامل فيها أحسن من الموظف المغربي والإسباني معاً (هولندا)؟ أم هو هروب مضاعف من وطنه الأم وأي شيءٍ يشبه وطنه؟ كم أود رؤيةَ وجهه وهو مصدوم من كمية المغاربة في هولندا التي لا تختلف ظروفها عن الذي يحدث هنا، بل هناك أخبارٌ تقول إنهم سيغيرون اسمها لـ"سيدي تاهولادينت"، وإضافة نجمةٍ خضراء أو هلال يطغى على بياضِ واحمرار وزرقة علمهم. أستغفر الله على خيالي المريض.. ربما اشتراها لأنه أحبّها، ولأنها تجفف جسده بعد الاستحمام ليخرج بحثاً عن مستحيلٍ اسمه "وظيفة".. آهٍ آه! على الأقل عندي عمل وأكل وبيت، الحمد لله، غلبَ عفوكَ ذنبي. سأعود بكم قليلاً لأيام "البيسيتا" وبدايات "الأورو".. شهدت إسبانيا رواجاً خطف أنظار العالم؛ حيث صارت قبلة للغنى السريع، أغلب العاملين كانوا يشتغلون في أكثر من وظيفة حتى يشتروا بيوتاً على شط البحر، وسيارة يسافرون بها أينما شاءوا. المعيشة رخيصة جداً مقارنة بالجودة العالية، ومع ذلك القلة القليلة من كانوا يطبخون في البيت، وساعد في ذلك ثقافة "البار"؛ حيث يأكل ويشرب الجميع في الخارج حتى يسقطوا على ظهورهم، بنيان هنا وهناك، وسياح بالملايين يرمون بكل نقودهم؛ كي يزاحمونا في فردوسنا. عشنا سنينَ نُحسد عليها، كانت رفاهية العيش تفوق أي دولة أوروبية، وكانت البنوك في الجانب الآخر تصطاد فرائسها بشتى الطرق، خصوصاً ذوي الجنسيات الأجنبية. وكان ملاك القوارب والأراضي الزراعية يأتون بفيالقَ من المغاربة واللاتينيين ليشتغلوا هنا بأثمنة باهظة بالنسبة لهم، جد رخيصة بالنسبة لبلدنا. كم تمنيتُ أن نشتري بيتاً يطل على البحر كجميع معارفنا، غير أنّ أبي رفض قائلاً: "جهلة.. لم يتعلموا من التاريخ شيئاً، هل نسوا النكسات التي أصابت شعوباً قبلهم ظنوا أن الرواج الاقتصادي يدوم؟ هل نسوا نكستهم؟. أنصحك يا بني أن تعمر في مكان مستقر اقتصاده كالمغرب مثلاً". أصاب بكلامه، وتأكدت من صوابه حين درست الظاهرة بعمق، وكذا رأيتها مطبقة في الواقع: 4 شقق لكل إسباني، هذا ما صرحت به وزارة التنمية؛ أي 168 مليون شقة لا نستفيد من جلّها. تراجعت نسبة اليد العاملة في إسبانيا خمسة أضعاف ما كانت عليه منذ عشر سنوات، وتم نقل بعض الشركات المهمة للمغرب؛ لأنها تسهل على مستثمريهم ظروف العمل وتوفر لهم الملايين لرخاء يدها العاملة التي تقدر بـ5 يورو لليوم تقريباً، بينما في إسبانيا تصل بين 30 و40 يورو لليوم، وكذا قلة الرقابة التي تخول لهم نوعاً من السلطة والتحكم في سيرورة عملهم حسب شروطهم؛ لأن آخر همّ المغربي البسيط هو ظروف عمله وسلامة عقده. نشطت حركة انتقالهم للمغرب حتى صارت تزودهم بما يقارب 30 في المائة من احتياطي الخضراوات والسمك تذهب أغلبها للأسواق الممتازة. لنعُد للضفة الأخرى، غالبية الجالية المغربية هنا ليسوا ضحايا الظروف كما تروّجُ لهم صحافة القيل والقال، بل هم مشاركون في الجريمة، فهم لا يملكون شواهد تخول لهم عملاً مستقراً ولأولادهم. نسبة المغاربة الملتحقين في الجامعة الإشبيلية تصل لـ407 طلاب، 42 في المائة منهم غير مقيمين (أي سيرحلون بعد انتهاء فترة دراستهم)، وأغلبهم لا يتقن لغتهم الشيء الذي يبعدهم عن فرص عمل حقيقية حسب الرأي العام الإسباني الذي يرى في انعزالهم إهانة لوطنهم وثقافتهم. والأخطر أنهم يعيشون على مساعدات الدولة بدعوى فقرهم بينما يهربون العملة الصعبة لبلدهم الأم، كي ينزلوا في الصيف محملين بالهدايا الرخيصة والمظاهر المبالغ فيها، التي يساعدهم فيها أبناؤهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بصورهم التي تدل على الغنى والعيش الكريم. حسب آخر فرز للمعهد الوطني للإحصاء (INE) سنة 2016 يوجد في إسبانيا 753.425 مغربي مسجل (يملكون حق الإقامة والعمل)، منهم 24.247 مغربي حاصل على الجنسية الإسبانية، أي بنسبة 3.22 في المائة، في مدينة إشبيلية وحدها يوجد حوالي 9.313 مغربي. عائلات امتهنت الفلاحة والصيد والتجارة في هذه الجنة السياحية، وبقوا عالقين بين بلد ظروفه الرمادية أحسن من سواد وطنهم الذي بعثر هويتهم وساعدهم على نكران الماضي الأليم، بين استعباد البنوك التي اصطادتهم بعقارات متوسطة الجودة تميل لضعيفة ما زالوا يدفعون وسيدفعون ثمنها خلال الأربعين سنة القادمة، وبين الهرب من العار ومن نظرة المغاربة ورأيهم الشبه موحد: ما دمت تسكن في الخارج ولم تمتلك بيتاً هنا وآخر هناك وسيارة كبيرة فارهة، فأنت حتماً إنسان فاشل. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :