يستحق المغرب تسمية «قارة سينمائية» مُبحرة في عالم عربي، على حافة العالم. المغرب، هذا البلد الذي أمكنه، منذ فترة مبكرة في القرن العشرين، أن يكون أحد أهم استوديوات تصوير بعض أبرز الأفلام الأوروبية والأميركية، يفور اليوم بالسينما. ففضلاً عن الجديد، سنوياً، من الأفلام المغربية الباهرة، ثمة الكثير من المهرجانات الدولية والوطنية، العامة والمختصة، هنا وهناك، في هذه المدينة وتلك، لا يأبه التداخل في ما بينها، أو التعاقب وإن بفارق يوم واحد. يسافر السينمائيون، فيه، من مهرجان إلى آخر، كما لو أنهم ينتقلون من حجرة إلى أخرى، تتجدد الأمكنة، وتنتعش الروح. في المغرب اليوم، سينما، وسينمائيون، صنّاع، ونقاد، ومهتمون ومتابعون. يمكن هذا البلد إنتاج قرابة عشرين فيلماً في العام، تتنوّع ما بين السينما التجارية التي عينها على الصالات وشبابيك التذاكر، والسينما الفنية التي تتنافس المهرجانات العربية على الاستحواذ عليها، وفي اليقين أن الكثير منها لن يخرج بلا جوائز أولى، وكبرى، وقد بات الكثير منها علامات في سينما المنطقة. هنا فقط، يمكنك أن تعثر على مهرجانين سينمائيين يُعقدان، في الوقت نفسه، على حافتي نهر. ما بين مدينة سلا والرباط لا يفصل سوى نهر «إبي الرقراق». وعندما تصل لحضور افتتاح «مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف»، ستلتقي بمن سبقوك بالحضور قبل أيام للمشاركة في «مهرجان سلا لسينما المرأة». ولن تنتظر سوى يوم واحد، بعد اختتام «مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف»، للالتحاق بـ «مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي». وحده بلد مثل المغرب، يمكنه أن يفعل ذلك. فلا تتأفّف ولا تضجّ، ولا يستكثر أحد هذه الوفرة. مهرجانان دفعة واحدة حراك سينمائي غني ومثير، لا يمكن تلخيصه بالمهرجانات فقط. فالمغرب حاضر فيها جميعها بأفلامه، الروائية الطويلة، والوثائقية، والقصيرة. حاضر بسينمائييه، من أجيال متتالية، من مخرجين وفنيين وفنانين ونقاد. يزدهي بصالات عرض سينمائي تمّ تجديدها («النهضة»، «الفن السابع»، «الريف» أو «الخزانة السينمائية المغربية»)، وأخرى قيد التجديد. جمهور يتوافد على الصالات وغالبيته من الشباب. أمل يتكئ على هذا الجمهور، ويتعزّز به، بأنّ للسينما هنا، في المغرب، مستقبلها، ووعدها المقبل. وما بين افتتاح «مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف»، واختتام «مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي» يمكنك أن تعيش أسبوعين من السينما. أفلام مغربية في المُقدّمة، حضوراً واهتماماً، واكتشافات. وأفلام عربية، مقبلة مع نجومها، وأفلام غير عربية، تفد من شتى أصقاع الجغرافيا، المتوسطية أو العالمية، وفق «نوع» المهرجان، وضوابطه، سينما مؤلف، فيلم متوسطي قصير، سينما المرأة. هنا ليس ثمة من مجال للتلكؤ، ولعثرات البدايات. دورة تاسعة عشرة في الرباط، ودورة حادية عشرة في طنجة. تواريخ تنطوي على سنوات وتجارب وأجيال وخبرات تراكمت. يحضر الرسميون بين حين وآخر، تماماً إلى درجة أن وزير الاتصالات سيأتي من العاصمة إلى طنجة لحضور الفيلم المغربي القصير «ريكلاج»، وهو الذي يتناول بجرأة تُحسب له، ما كان مسكوت عنه سينمائياً طيلة عقود، وصار للمغاربة إمكانية نبش «سنوات الرصاص»، وانتقادها، ليس بالكلام فقط، بل أيضاً بصناعة أفلام لا تخفي مقولاتها، ولا تواري رسائلها، ولا تموّه خطاباتها. وزير الاتصالات، الآتي إلى الحكومة والوزارة من خلفية دينية، لا يتردّد في اختتام «مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف»، في الإشادة بالفيلم الأرجنتيني «جمال»، الفائز بالجائزة الكبرى. بثقة من شاهد الفيلم بهدوء، وتأمل وأنعم النظر فيه، يتحدّث الوزير ذو اللحية الخفيفة، فيترك أثراً لطيفاً، وهو لا يعلم أنك ستشاهده أكثر من مرة، خلال الأسبوع التالي، في «مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي»، على مسافة قرابة أربع ساعات سفر في القطار، تارة لحضور عرض مجموعة أفلام قصيرة، وأخرى للمشاركة في حفل الختام، وتوزيع الجوائز على شباب متوسطيين فائزين، وبينهم مغربي على الأقل. السينما وثقافتها يعتني المغاربة بالثقافة السينمائية في شكل ملفت. دوناً عن غيرهم في بقية البلدان العربية، ومن دون أي مبالغة، يبدون أكثر اهتماماً وعناية بالثقافة السينمائية. الندوات، المحاضرات، الدروس، النقاشات، والكتب الصادرة، المؤلفة فردياً، أو المُنجزة في شكل جماعي. نقاد يبرعون في الكتابة باللغة الفرنسية، وآخرون يبرعون في الكتابة باللغة العربية، والأبرز بينهم جميعاً من يتقن اللغتين، ولا يكفّ عن تطوير مهاراته بالعربية، وقد اكتشف أن ثمة جمهوراً عربياً، في المشرق، ينبغي الوصول إليه، تماماً مثل جمهور الفرنسية، والناطقين بها، في الشمال والجنوب. عما قليل. بعد يومين أو ثلاثة. لن تخفى عليك التفاصيل. إجماع شبه كامل على أهمية «المركز السينمائي المغربي»، ودوره في تطوير السينما المغربية وإنضاجها، والارتقاء بها. لا خلاف على رئيسه الناقد والسينمائي المعروف نور الدين الصايل، وريادته، وثقافته السينمائية الواسعة. ولكن، لا بد من ملاحظات تنطوي على رغبة عميقة بالمزيد من «الديموقراطية»، وفضيلة الإنصات للآخر، السينمائي المغربي، صانعاً أو ناقداً. لا يكتفي المغرب بأن يكون بلداً جميلاً بمناخه المعتدل، وطبيعته الخلابة، وشعبه الودود. طموحه كبير بأن يدخل عالم الحداثة والعصر، من دون تخليه عن تاريخه العريق وتقاليده الباذخة وأصالته الراسخة. يضع المغرب أقدامه على بدايات طريق جديدة، ما عرفها من قبل. أمام صالة «النهضة» في الرباط، وريثما تدخل لحضور عرض الساعة السادسة مساء، يمكنك التوقّف قليلاً على رصيف تظاهرة أقامها مئات من الشباب، رافعين شعارات مطلبية متعددة، تبدأ من مسائل الشغل والعمل، ولا تنتهي عند التنديد بالحكومة. بينما في منتصف المسافة ما بين فندق «رامبرانت»، وصالة «الريف» في طنجة، يمكنك التوقّف أمام تظاهرة أخرى، يقيمها شباب آخرون، لا يبتعدون بشعاراتهم عما كان في الرباط. وفي الحالين يحرس «الأمن الوطني» سلمية التظاهرة، ويحرص عناصر الشرطة على انسياب حركة المرور. ما بين العروض السينمائية في الصالات، والتظاهرات المطلبية في الشارع. في الرواح والمجيء، يمكنك ملاحظة أن المدينة تعيش على إيقاع مهرجانها. حتى أولئك الذين لا يحضرون إلى صالات السينما، من أبناء المدينة، يعرفون أشياء عن المهرجان. السائقون، البائعون، خدم المقاهي، ندل المطاعم، ندماء الحانات، المارة، والعابرون. في الأسواق القديمة، والمولات الحديثة، ومحطات القطار. في المغرب، «القارة السينمائية»، تتعرّف إلى السينما أسلوب حياة، ليس لدى صنّاعها، ونقادّها، ومنظمي مهرجاناتها، وجمهورها، فقط. بل لديك أنت، الذي ستتعلّم هذا، وتعود من المغرب وقد امتلأت يقيناً بأن السينما أسلوب حياة حقاً.
مشاركة :