د.إدريس لكريني رغم الروابط الاجتماعية والدينية والثقافية العميقة التي تجمع الشعبين الشقيقين؛ المغربي والجزائري، ما زالت العلاقات بين البلدين تتأرجح بين المدّ تارة والجزر تارة أخرى، فيما ظلّت الحدود البرّية وإلى اليوم مغلقة على امتداد أكثر من عقدين، ما يكلّف المنطقة المغاربية برمّتها هدر المزيد من الفرص والإمكانات، في زمن زادت فيه التحديات، وتنامى التوجّه الدولي نحو التكتلات الكبرى كسبيل، لكسب معارك استراتيجية داخلية وأخرى خارجية. المغرب والجزائر من الدول الوازنة داخل الاتحاد المغاربي الذي تأسس في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بموجب معاهدة مراكش، وهو الاتحاد الذي لم ينطلق بعد، رغم الطموحات والانتظارات الكبرى التي رافقت إحداثه، والإمكانات الكبرى المتاحة لبلدانه، سواء على مستوى الموقع الاستراتيجي، أو فيما يتعلق بالإمكانات البشرية والطبيعية والاقتصادية.. المتوافرة..ما زال الجمود هو السّمة الطاغية على مسار الاتحاد، وتبقى طبيعة العلاقات المغربية- الجزائرية على رأس العوامل المسؤولة عن هذا الوضع، والذي يضاف إلى الأزمات التي ما فتئت تواجه النظام الإقليمي العربي بكل مكوناته منذ نهاية الحرب الباردة وتزيد من تعقيده أكثر..ورغم الإشكالات والمخاطر الجدية التي أصبحت تواجه المنطقة المغاربية برمتها في السنوات الأخيرة، سواء تعلّق الأمر بتحدي الجماعات الإرهابية، وتنامي الهجرة السّرية والتهريب..، أو تعلق الأمر بتأزم الأوضاع الأمنية في ليبيا، وتزايد حدّة التهافت الدولي والإقليمي على المنطقة، إلا أن ذلك لم يكن دافعاً بشكل كاف، أو محفزاً على طيّ الخلافات والسعي إلى الاندماج والتكتّل.وأمام فشل الجهود الرسمية في سبيل تطوير العلاقات بين المغرب والجزائر، انسجاماً مع الرغبة العارمة للشعوب في هذا الصدد، وبغض النظر عن العوامل المختلفة التي تقف حجر عثرة دون تحقق هذا الرهان، فقد تزايد الوعي لدى الكثير من الفاعلين بضرورة توظيف عناصر القوة الناعمة بكل مكوناتها الثقافية والرياضية والفنية والتكنولوجية والمدنية.تقوم القوة «الناعمة» في مجملها على الإغراء والإقناع والجذب، بدل الإكراه والزجر.. مع استثمار مختلف القنوات الثقافية والفنية والروحية والعلمية في التأثير على صناعة الرأي والقرارات.وقد برزت في المنطقة خلال السّنوات الأخيرة مجموعة من المبادرات التي يمكن إدراجها ضمن آليات القوة الناعمة، سعت إلى تجاوز الجمود الذي يطبع العلاقات بين البلدين، سواء تعلق الأمر بتوجهات عدد من شبكات التواصل الاجتماعي التي حرص أصحابها على طرح المشترك الثقافي والحضاري والاجتماعي بين الشعبين، ثم الدعوة المستمرة إلى تعزيز العلاقات بين الطرفين، أو تعلّق الأمر بجمعيات ومنظمات المجتمع المدني داخل البلدين، التي دعت إلى فتح الحدود وتعزيز التعاون والتنسيق الاقتصادي، إلى جانب جهود عدد من الهيئات البحثية والفعاليات العلمية التي حرصت على تبيان المشترك المغاربي بشكل عام، والفرص والإمكانات الكبرى المتوافرة لدول المنطقة لأجل الولوج إلى عالم متغير بكل ثقة..، إضافة إلى المبادرات التي يقودها عدد من المقاولين والفنانين على طريق التحسيس بالمشترك الحضاري والثقافي بين الشعبين، علاوة على ما تشكّله الكثير من المحطات الرياضية كمناسبات للتعبير عن التضامن بين الشعبين، وهو ما تجسّد في نهائيات كأس إفريقيا لكرة القدم المنظمة بمصر أخيراً، عندما توحّد الشّعبان في مناصرة فريقي البلدين، ثمّ خروج الكثير من المغاربة إلى الشوارع احتفاء بفوز المنتخب الجزائري بكأس إفريقيا، فيما وجدت نقطة الحدود بين البلدين في هذا الحدث فرصة سانحة للاحتفال الجماعي وتأكيد أواصر الروابط الاجتماعية والأسرية بين الجانبين.. وهو ما خلّف ارتياحاً كبيراً في أوساط الكثير من فعاليات المجتمع المدني بالجزائر، ورواد شبكات التواصل الاجتماعي.. بل اعتبرها الكثير من المراقبين فرصة لتحريك مطلب فتح الحدود بين البلدين.يوماً بعد يوم، تتأكد رغبة شعبي البلدين في تحقيق التواصل والاندماج، وهي رغبة تحمل بين طياتها شعوراً بعدم الرضا عن واقع الجمود المغاربي، واستيعاباً لتحولات العصر التي تفرض الاحتماء ضمن تكتلات وازنة، لمواجهة مختلف التحديات التي تواجه المنطقة.. ويبدو أن تحرّك الفعاليات المدنية والثقافية والاقتصادية على هذا المستوى، سيشكل حتماً قوة ناعمة، ستزيد من كشف الفرص والإمكانات المهدورة، وتدفع إلى تبني قرارات رسمية في مستوى انتظارات شعوب المنطقة وطموحاتها المشروعة في بناء مغاربي قوي ومندمج، يستحضر المصالح الاستراتيجية والحقيقية للمنطقة، بعيداً عن كل الحسابات الضيقة.. وبخاصة أن هناك تجارب دولية ناجحة، كان للقوة الناعمة دور كبير في بلورتها، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبي. drisslagrini@yahoo.fr
مشاركة :