محمد رُضا صلاح أبو سيف.. مخرج الواقعية في السينما المصرية. وهو وصف صحيح بكل تأكيد، ولو أن المخرج الرائع أبدع في أنواع عديدة، فإنه يمتلك أفلاماً من مصادر أدبية وأخرى من كتابات مباشرة بعيدة عن فن الواقعية، العاطفية والكوميدية، التي أخرجها خلال مسيرته السينمائية.لا يختلف اثنان على أن هذا المخرج الكبير، الذي رحل عنا قبل 23 سنة، أجاد في تقديم السينما الواقعية كما لم يفعل آخر. عاشها وحركها أمام المشاهد كما كانت وكما أحس بها، وهو مخرج كان على تواصل مع الجمهور العريض أكثر من أي شخص آخر سواه. هكذا يدرك المرء قيمة السينما الواقعية التي قدمها إلينا أبو سيف. تلك القيمة التي برهنت الأيام على أنه من الصعب تجاوزها، أو حتى الإتيان بمثيل لها. سينما أبو سيف الشعبية الواقعية كانت كسينما تشارلي شابلن الكوميدية أو أعمال فدريكو فيلليني الفانتازية أو كسينما اكيرا كوروساوا الدرامية، من الصعب فصلها عن الإنسان الذي انتمت إليه؛ لأنها أكثر مما هي نتاج عنه، هي جزء منه سكب فيه روحاً وفهماً وإبداعاً.وبرغم الكتابات العديدة التي استحقها هذا المخرج، الذي هو أقرب لأن يكون منارة السينما المصرية بكاملها، نسبة لتنوع وجودة أعماله، إلا أن المجال لا يزال متاحاً لنظرة بانورامية- احتفائية بهذا السينمائي العربي الذي ترك ما لا يمكن للسنوات هدمه من قيمة فنية واكبت معظم ما حققه. علاقة حب ولد صلاح أبو سيف في 10 مايو/أيار عام 1915 في حي بولاق بالقاهرة. ونتيجة خلاف بين والديه مكثت أمه وحدها في الحي ومعها صلاح وشقيقته الأكبر سناً، بينما قرر والده البقاء في الصعيد والزواج مرة أخرى. الفيلم الأول الذي شاهده أبو سيف، كما أورد في أحاديث له كان لتشارلي شابلن؛ وذلك عندما فضل مشاهدة فيلم سينمائي على متابعة دروسه الليلية. كانت لحظة اكتشاف «مبهرة» كما يقول عنها المخرج وبداية احتكاكه الأبدي بهذا الفن الذي حينها كان ما يزال في خطواته الأولى. في تلك الأيام كان المجال متاحاً فيها للتجربة والاستلهام كما لم يتح في معظم مراحل السينما لاحقاً. كذلك كانت أيام مناسبة لتطويع رغبة صبي في التعلق بها، الصورة المتحركة الجديدة وبداية عصر النجوم وبلورة الخيال إلى حكايات مرئية.كان «هاوي سينما» من الذين جعلوا السينما شغفهم الخاص حتى من قبل أن يتأكد من أنه يريد أن يكون مخرجاً أو يعمل فيها. ورأيناه من بعد المدرسة المتوسطة ببضع سنوات يلتحق بالعمل في وظيفة بشركة مصر للغزل والنسيج رغم أن السينما هي التي كانت تشغل قلبه. يذكر أبو سيف أنه عثر على كتاب صغير عنوانه «كيف تكون ممثلاً سينمائياً؟» فاشتراه وقام بقراءته معتقداً، ربما، أن التمثيل هو ما يرغب به. لكن عبارة وردت في الكتاب حول المخرج جعلت أبو سيف يقرر سريعاً أن الإخراج هو ما يريده وليس التمثيل «الرجل الذي في مخه كل الفيلم»، هذه كانت العبارة.تبعاً لذلك كانت مسألة أبو سيف الالتحاق بالعمل السينمائي، على امتعاض أهله، حتمية وفي سنة 1936 تمت المحاولة بتعرفه إلى المخرج الراحل نيازي مصطفى الذي ورد إلى المصنع؛ حيث كان يعمل صلاح فيه؛ ليحقق فيلماً تسجيلياً فيه. هناك جلس ونيازي مصطفى ولا بد أن صلاح شكا لنيازي غرامه بالسينما ومتابعته لها وعدم تمكنه من العمل فيها. وكان نيازي مصطفى وقع في الحب نفسه كذلك؛ لكنه امتهن السينما قبل صلاح، سعى لدى استوديو مصر فتم تعيينه مساعداً بقسم التوليف (المونتاج).هكذا وضع أبو سيف قدمه في استوديو مصر كمساعد مخرج وعمل من هذا الباب في عدد من الأفلام بعضها من إخراج الألماني فريتز كرامب، وبعضها الآخر من إخراج نيازي مصطفى. لكن تجربته مع فيلم «العزيمة» لكمال سليم كانت الأكثر ثراءً؛ ذلك لأنه تابع العمل من الفكرة المخطوطة إلى ما بعد انتهائها؛ عندما كان يدخل صالات السينما ليشاهد الفيلم ويستمع إلى مناقشات المشاهدين وتعلقاتهم. «العزيمة»، كما يعرف اليوم كثيرون من هواة السينما ومتابعيها، كان أحد أول عملين واقعيين أنتجتهما السينما المصرية، الثاني «السوق السوداء» لكامل التلمساني، ولا ريب أن (أبو سيف) وجد في اشتراكه في ذلك العمل صلة الوصل بين التراث الشعبي الذي أتى منه والبلورة السينمائية التي يريدها والتي سينتجها لاحقاً. تمصير هوليوود في حديثه للناقد الراحل فوزي سليمان، المنشور في العدد 88 من مجلة «التضامن» اللندنية بتاريخ 15 من شهر ديسمبر/كانون الأول سنة 1984، كشف أبو سيف عن اعتقاده بأن فترة دراسته المونتاج والإخراج في فرنسا، عندما أوفد في بعثة لاستوديو مصر، أمدته بالذخيرة الثقافية المطلوبة؛ لتحقيق حلمه الكبير وهو الإخراج. لكن الأهم هو قوله: إن شعوره وهو يصل إلى باريس لأول مرة كان من التأثير إلى درجة أنه عاد فاستخدمه في وصف خطوات شكري سرحان الأولى في فيلم «شباب امرأة» حول ذلك الشاب الصعيدي الذي يهبط إلى القاهرة الكبيرة وتلتقفه امرأة.إثر عودته من باريس، في أجواء الحرب العالمية الثانية، أصر وعاند في أمر رغبته إخراج فيلمه الأول حتى تسنى له ذلك في «دايماً في قلبي» عام 1946. كان هذا الفيلم النسخة المصرية من فيلم أخرجه الأمريكي ميرفن لي روي سنة 1940 وهو «جسر ووترلو»، الذي ليس الفيلم الوحيد الذي أخرجه أبو سيف مقتبساً عن فيلم آخر. فهناك «لك يوم يا ظالم» (1952) المأخوذ عن أحد أفلام ج.و. بابست. وهناك كذلك «مجرم في إجازة» الذي أخرجه بعد ست سنوات عن فيلم «النمر النائم» لجوزف لوزي (1954). وفي 1962 أخرج «رسالة من امرأة مجهولة» عن فيلم بنفس العنوان لماكس أوفلوس (1946). ومع أن القليل قد ذكر عن الظروف التي أدت إلى هذه الاقتباسات، إلا أن أبو سيف لم يكن يلعب لعبة النقل في أي منها؛ بل جاءت تلك الأفلام تمصيراً فعلياً للقصص الأصلية. والمهم كذلك أنها وردت على نسق واحد من الأسلوبية، بما يوحي بوجود المخرج الجديد وراءها وليس المنفذ الذي يحاول تقليد المخرج السابق. بعد «دايماً في قلبي» أخرج «المنتقم» في العام التالي (1947) ثم «مغامرات عنتر وعبلة»، الذي قدم عام 1948 في مهرجان «كان». بعد «شارع البهلوان»، فيلمه الطويل الرابع عام 1949، أخرج «الصقر» الذي ضمنه كذلك شيئاً من الدعوة للتضامن العربي في مواجهة الأجانب الطامعين في الأرض العربية. وخرج «الصقر»، كثاني فيلم عن المغامرات التاريخية له، عام 1950، وفي السنة التالية «الحب بهدلة»، ثم «لك يوم يا ظالم» وبعده «الأسطى حسن». اهتمام المخرج أبو سيف بالواقعية ظهر كملامح مؤكدة في هذه الأعمال؛ لكن لابد من الإشارة إلى أن «الأسطى حسن» كان أول فيلم واقعي بالفعل؛ من حيث الشخصية والمكان وما يتطلبه ذلك من معالجة مناسبة. وقد تبعه على الفور «ريا وسكينة»: دراما كان من الممكن لها أن تتحول بيد مخرج آخر إلى فيلم بوليسي مجرد؛ لكن أبو سيف، متناولاً واقعة حقيقية، غرس الفيلم في تربته الواقعية وخرج بفيلم أحياء لا يزال من أفضل أعماله إلى اليوم. مباشرة من بعده، أي سنة 1945، أخرج «الوحش» ثم فيلمه الممتاز «شباب امرأة» (1956)، وبفيلم «الفتوة» (1957) ختم أبو سيف مرحلة الفيلم الواقعي الأولى. صوب الأدب عام 1957 أيضاً شهد قدوم أول أعمال صلاح أبو سيف المأخوذة عن مصدر أدبي عربي كبير وتمثل ذلك في «الوسادة الخالية»، ثم «أنا حرة». تبع ذلك أحد أهم الكوميديات الاجتماعية في السينما المصرية وهو «بين السماء والأرض» الذي دار حول موقف معين، مصعد يتعطل بركابه بين طوابق بناية عالية؛ ليبحث في شخصياته في تلك اللحظات الحرجة، ونرى أن أبو سيف بعد 27 سنة أعاد تركيب الموقف ذاته في إطار قصة مختلفة وشخصيات متغايرة في فيلم «البداية».بداية الستينات شهدت استمراره في تناول الأعمال الأدبية فكان منها «بداية ونهاية» و«لا تطفى الشمس» ثم في العام التالي «رسالة من امرأة مجهولة». في 1963 أخرج «لا وقت للحب» ثم توقف ثلاث سنوات قبل أن يعود إلى السينما بفيلم مهم،رشح للأوسكار، هو «القاهرة 30» الذي تناوله عن رواية نجيب محفوظ حول تلك الفترة وتياراتها السياسية. وبعد «الزوجة الثانية» عام 1967 عاد أبو سيف إلى السياسة في فيلم يعده كوميدياً هادفاً هو «القضية 68» أتبعه بجزء من فيلم «ثلاثة نساء» وبفيلم شيء من العذاب» عام 1969.فيلمه التاريخي الثالث جاء عام 1970 ممثلاً ب «فجر الإسلام»، ثم أتبعه أحد أعماله المهمة الأخرى هو «حمام الملاطيلي» عام 1973 وبعد عامين فيلم «الغضب» ثم «وسقطت في بحر العسل» الذي كان آخر فيلم له عن رواية لإحسان عبد القدوس؛ وذلك عام 1977. «المجرم»، عام 1978، فيلم لم يرض أبو سيف عنه وقد مر سريعاً أمام أعين النظارة والنقاد؛ لكن أبو سيف بعده تفرغ لفيلمه التاريخي الرابع والأضخم «القادسية» الذي كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في العراق.
مشاركة :