حسناً فعل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأخيرة - رقم 37 - عندما خصص إحدى ندوات أسبوع النقاد حول المخرج صلاح أبو سيف بمناسبة مرور مئة عام على مولده، ذلك أن الرجل لا يعد واحداً من أهم مخرجي السينما العربية على الإطلاق فحسب، وإنما لكونه أسهم في تسليط الضوء على كثير من الروايات العربية والأجنبية المهمة، وذلك من خلال الأفلام التي أنجزها عن هذه الروايات، الأمر الذي يمكن وصفه بأن صلاح أبو سيف هو الناشر الأكبر لفن الرواية بين الجمهور العام. في البداية يجب أن نعرف أن إحدى أهم الحقائق عن السينما المصرية أنها نشأت على أكتاف المسرح، وظلت مرتبطة به مدة طويلة حتى استطاعت أن تتحرر من جبروته وتشق لها طريقا خاصة. هذه النشأة جعلتها تتكئ على فنون المسرح في الأداء والحركة في الأفلام الأولى، بعد أن استعارت من دنياه القصص الفاجعة التي كان يوسف وهبي يقتبسها ويعرضها على مسرح رمسيس، أو تتحايل على حكايات من القصص الفكاهية التي كان يقدمها نجيب الريحاني وعلي الكسار على مسارح عماد الدين وروض الفرج. لم تعرف السينما طريقها إلى فنون الرواية إلا عام 1930 عندما تصدى المخرج الرائد محمد كريم(1896/ 1972) لإخراج فيلم مأخوذ عن أول رواية مصرية وهي (زينب) الصادرة عام 1914 لمحمد حسين هيكل باشا، وقد عرض الفيلم عام 1930 قبل أن ينطق الفيلم العربي في مصر إذ ظل طوال عقد تقريباً يدور في فلك الصمت الكثيف. بعد ذلك استعار المخرج نفسه رواية (ماجدولين) أو تحت ظلال الزيزفون للكاتب الفرنسي ألفونس كارل، وقد تولى مصطفى لطفي المنفلوطي تعريبها، ليقدمها محمد كريم للسينما بعنوان (دموع الحب) عام 1935، وهو ثالث أفلام محمد عبد الوهاب. وفي سنة 1942 يقتبس المخرج المصري اليهودي توجو مزراحي الرواية موفورة الصيت (غادة الكاميليا) للأديب الفرنسي إلكسندر ديماس الابن، ويقدمها في فيلم يحمل اسم (ليلى) لحسين صدقي وليلى مراد. أما رواية (البؤساء) لفيكتور هوجو، فقد حققها المخرج كمال سليم للسينما في عام 1943، وهي رواية مهمة تفضح الظلم الاجتماعي، وتنحاز إلى فقراء الناس، وكمال سليم هو من حقق فيلم (العزيمة/ 1939) الذي عمل فيه صلاح أبو سيف مونتيرا، الأمر الذي أفاده كثيرا في مسألة ضبط إيقاع الفيلم، فلا يمكن أن تشاهد فيلما للرجل وقد اضطرب منه الإيقاع أو تباطأ أو تجاوز الحدود المنطقية. اقتحم صلاح أبو سيف عالم الإخراج للمرة الأولى بفيلم (دايماً في قلبي) الذي عرض في 26 ديسمبر 1946، والفيلم مقتبس من الفيلم الأمريكي الشهير (جسر ووترلو/ 1940)، وقد بلغ عمر صلاح أبو سيف آنذاك 31 عاماً، من مواليد 1915، وكانت مصر في مرحلة الأربعينات تفور بآراء جريئة وأفكار ثورية تروّج لها أحزاب وقوى سياسية متباينة، وكان الحديث ينهمر عن مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وعن ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، ولا شك أن أبو سيف تأثر بالمناخ الفكري السياسي الذي كان سائدا في ذلك الزمن، ولعل النقطة الفاصلة في حياته هي لقاؤه بنجيب محفوظ، هذا الروائي الفذ المؤمن بالحرية والعدل، والذي تتكئ جميع رواياته حول هذين المطلبين. لا نعرف كيف تم اللقاء الذي أفاد السينما إفادة عظمى، لكن المؤكد أن كلا منهما تعلم من الآخر، ولعل كثيرين لا يعرفون أن ثاني أفلام صلاح أبوسيف وهو (المنتقم 11 أغسطس 1947) قد اشترك في كتابته مع نجيب محفوظ، الأمر الذي يفسر لنا النقلات النوعية التي قفزها صلاح في أفلامه بعد ذلك. في عام 1948 اقترب أبو سيف كثيراً من نجيب محفوظ الذي كتب قصة فيلم (مغامرات عنتر وعبلة)، وهو يستوحي نضال العرب ضد الرومان في إشارة إلى كفاحهم ضد إسرائيل كما لاحظ بحق الناقد السينمائي الكبير محمود قاسم في موسوعته المهمة (دليل الأفلام في القرن العشرين). وفي عام 1951 اجتمع الروائي والمخرج لتحقيق فيلم (لك يوم يا ظالم) فكتب محفوظ السيناريو، وقد أسهمت هذه العلاقة المتينة في انحياز أبو سيف إلى عالم الفقراء المظلومين، وها هو يقدم (الأسطى حسن) قبل اندلاع ثورة يوليو 1952 بشهر واحد فقط. لم تكن مفاجأة أن يبحر أبو سيف في نهر الرواية كي ينهل منه ما يشاء ليحقق أفلامه، فقد تربى على يد محفوظ، لكن المفاجأة أن أول رواية قدمها للسينما لم تكن لصديقه الحميم، وإنما كانت لأمين يوسف غراب، وهي (شباب امرأة) التي حولها إلى فيلم عرض للمرة الأولى في 6 يناير 1956، وفي العام التالي لم يلتفت إلى أي من روايات نجيب محفوظ، وإنما استعان برواية إحسان عبد القدوس (الوسادة الخالية/ 1957) ليقدمها في فيلم شهير في أول تعاون مع عبد الحليم حافظ وأول ظهور للبنى عبد العزيز. وقرب نهاية العام - 31 أكتوبر 1957 - عرض فيلم (لا أنام) عن رواية لإحسان أيضاً، لكنه عاد إلى محفوظ بوصفه كاتب سيناريو في عام 1958 عندما اشتركا معاً في تحقيق فيلم (مجرم في إجازة) المأخوذ عن رواية (النمر النائم) لجوزيف لوزي. وبعد شهر واحد فقط عرض فيلم (الطريق المسدود) المأخوذ عن رواية لإحسان، والمفارقة أن محفوظ هو من كتب السيناريو ويبدو أن نجاح الثلاثي أبو سيف وإحسان ومحفوظ أغراهم لتقديم رواية (أنا حرة) في مطلع عام 1959! أما فيلم (لوعة الحب/ 1960) فقد قدمه أبو سيف مستلهما رواية (الوحش الآدمي) لإميل زولا، ثم قدم قصة من ثلاث ضمتها حكاية (البنات والصيف) لإحسان عبد القدوس. أخيرا وبعد علاقة فنية دامت نحو 13 عاماً، انتبه صلاح أبو سيف إلى روايات نجيب محفوظ، وهكذا أقدم على إخراج أول رواية تعرضها السينما لصاحب نوبل 1988، وكانت (بداية ونهاية) التي حولها أبو سيف إلى فيلم عرض في 31 أكتوبر 1960، ومن غرائب الحياة والفن أن هذه الرواية منشورة منذ عام 1946، كما نشر نجيب أكثر من عشر روايات قبل أن تلتفت السينما إلى أهمية هذه الروايات، وهكذا يحسب لصلاح أبو سيف أنه أول من تجرأ وحوّل أعمال محفوظ إلى أفلام، الأمر الذي شجع المخرجين الآخرين على اقتحام الكنز الروائي لمحفوظ. (لا تطفئ الشمس) هي الرواية الرابعة لإحسان عبد القدوس التي يستعيرها أبو سيف ويجسدها على الشاشة لتعرض في 1961. لا أحد يعرف لماذا انقطع أبو سيف عن السينما ثلاثة أعوام كاملة حتى عاد إليها في 1966 من خلال رواية محفوظ (القاهرة الجديدة)، لكن المخرج الحصيف بدّل الاسم إلى (القاهرة 30) وكان قد مر نحو عشرين عاماً على صدور الرواية للمرة الأولى. باختصار.. اعتمد صلاح أبو سيف في معظم أعماله على الروايات، وقد استعان بروايات لعبد الحميد جودة السحار (فجر الإسلام/ 1971)، و(حمام الملاطيلي/ 1973) لإسماعيل ولي الدين، و(سنة أولى حب/ 1976) لمصطفى أمين وهو الفيلم الوحيد الذي اشترك في إنجازه خمسة مخرجين هم نيازي مصطفى وحلمي رفلة وعاطف سالم وكمال الشيخ ،إضافة إلى أبو سيف، و(سقطت في بحر العسل/ 1977) لإحسان، و(السقا مات/ 1977) ليوسف السباعي، و(المجرم/ 1978) عن رواية إميل زولا وكتب له السيناريو مع نجيب محفوظ. أما آخر أعماله المأخوذة عن روايات، فكان فيلم (المواطن مصري) المستوحى من رواية يوسف القعيد (الحرب في بر مصر) وقد عرض في 23 ديسمبر 1991. أجل.. كان صلاح أبو سيف فناناً منحازاً لأفكار تناصر الضعفاء وتنصفهم، وقد وجد في فن الرواية ما ييسر له مهمته الإخراجية الصعبة.. والجميلة، فترك لنا مجموعة من الأفلام الفاتنة التي استلهمت الكثير من الروايات المدهشة.
مشاركة :