دأب الخلفاء والأمراء على استدعاء المهرج لإحياء الاحتفالات والأعياد والمناسبات المبهجة، التى يشارك فيها الخليفة جميع الناس، وكان المهرج دائما ما يتمتع بروح دعابة وسخرية وإجادة قرض الشعر، والقدرة على التلاعب بأكثر المسائل تعقيدا فى الفقه أو اللغة والنحو، فيحولها بدوره إلى إحدى "القفشات والنكات" التى تتسبب فى إبهار الخلفاء والسماح لهم بجوائز كبيرة. اشتهر من بين هؤلاء المهرجين والساخرين الشاعر العباسى "أبودلامة"، الذى دائما ما يسخر من نفسه وشكله فيضحك الجميع ويرقون لحاله، اسمه الحقيقى «زند بن الجون»، ولد فى الدولة الأموية وعاصر أوائل الخلفاء لبنى العباس، وكانت له حكايات ومواقف طريفة مع أبى جعفر المنصور. يعود لقب ابن الجون بـ«أبودلامة» لأحد سببين، الأول أنه أنجب طفلا سماه «دلامة»، والثاني، أن «دلامة» اسم لجبل يطل على مكة المكرمة، معروف بصخوره السوداء الملساء، وأد فيه بعض العرب بناتهم أيام الجاهلية، ولأن الصفة المشتركة بين الشاعر والجبل هى السواد والطول، فإنه أخذ اسمه بين الناس «أبودلامة». تقول الرواية إنه دخل يوما على أبى جعفر المنصور، وعند الخليفة ولداه جعفر والمهدى وابن عمه عيسى بن موسى، فقال له المنصور: عاهدت الله يا أبا دلامة إن تهجو أحدًا ممن فى المجلس لأقطعن لسانك. وهنا أدرك الشاعر أنه أمام عهد الخليفة الذى لا بد ينفذ إن هو وقع فى المحظور، فنظر فى المجلس يبحث عن أحد يهجوه فما وجد إلا الخليفة وابناه وابن عمه، وفى نفس الوقت لا يوجد أحد من الخدم يمكن أن يوجه له الشاعر هجاءه. يبدو أن الشاعر الساخر عزم على كسر عهد الخليفة بأى حيلة، فظل يبحث فى المجلس على أحد يحتمل الهجاء، لكنه للأسف لم يجد، وداعب ذهنه أنه من بين أهل المجلس فلماذا لا يهجو نفسه؟! فقال: «لا أبلغ إليك أبا دلامة/ فليس من الكرام ولا كرامه/ إذا لبس العمامة كان قردا/ وخنزير إذا خلع العمامة/ جمعت ذمامة وجمعت لؤما/ كذلك اللؤم تتبعه الذمامة/ فإن تك قد أصبت نعيم دنيا/ فلا تفرح فقد دنت القيام». فضحك المنصور حتى استلقى وأمر له بجائزه. ونقل ابن المعتز فى كتابه «طبقات الشعراء» حكاية طريفة، فقال إنه لما مات أبوالعباس السفاح الخليفة الأول لبنى العباس، دخل أبودلامة على المنصور والناس تعزيه، وراح يقول شعرا: «إنى سألت الناس بعدك كلهم/ فوجدت أسمح من رأيت بخيلا/ ألشقوتى أخرت بعدك للذي/ يدع السمين من العيال هزيلا»، وفى الأبيات تلميح ببخل المنصور، مما جعله يستاء من الأمر، فغضب المنصور غضبا شديدا، وقال: لئن سمعتك بعدها تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. شعر أبودلامة بفداحة ما ارتكبه مع الخليفة، فاعتذر وألح فى الاعتذار حتى عفا عنه الخليفة وقبل اعتذاره، لكنه فى الوقت نفسه أمر أن يخرج الشاعر مع جيش متوجه لقتال عبدالله بن على فى الشام، فوثب أبودلامة وقال: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تخرجنى مع هذا العسكر؛ فإنى والله مشئوم، فقال المنصور: إن يُمنى يغلب شؤمك فاخرج مع العسكر. فقال أبودلامة: يا أمير المؤمنين، ما أحب لك أن تجرب ذلك، فإنى لا أدرى أى المنزلتين تحصل، ولا آمن أن يغلب شؤمي، فقال له: دع عنك هذا، فما لك بد من المسير فى الجيش، قال: يا أمير المؤمنين والله لأصدقنك، إنى شهدت تسعة عساكر كلها هزمت، فأنا أعيذك بالله أن تكون العاشر. وشاهد الخليفة مدى خوف ورعب أبى دلامة من التورط فى الانضمام للجيش المتوجه لقتال أحد الخارجين على الدولة العباسية، وأعجبته فصاحة وبلاغة الشاعر فى التعبير عن نفسه، وفى تحذير الخليفة من شؤم طالعه.
مشاركة :