جددت عملية معهد الأورام الإرهابية وسط القاهرة مؤخرا، والتي نفذها أعضاء بجماعة الإخوان من قاطني محافظة الفيوم في جنوب غرب مصر، الجدل حول الدوافع المتجددة التي تقود إلى تنفيذ عمليات إرهابية بخلاف الدافع العقائدي، وأكدت تواصل استغلال الفئات المهمشة والعاطلين. وتحاول التنظيمات المتطرفة والدول الداعمة لها، تغذية الحقد الطبقي لدى الكوادر التي لديها استعداد للتطرف قصد الانتقام من الحكومة المصرية، وتصويره على أنه نتيجة لتجاوزاتها، وليس نتيجة لما يتم بثه من أفكار خارجة عن السياق المعتدل المعروف عن المصريين. وتتعامل مع هذه النماذج على أنهم ضحايا وليسوا جلادين أو خارجين عن القانون. وانتهت السلطات المصرية إلى هذه المسألة وبذلت جهودا لتخفيف المعاناة الاجتماعية، بعد أن تحولت إلى حاضنة رئيسية للعنف، وبيئة خصبة لنموه، وأحد روافد مده باستمرار بعناصر إرهابية جاهزة، كما هو حاصل في الفيوم. لم تتوقف محافظة الفيوم عن تفريخ الإرهاب، بخلاف محافظات ومناطق أخرى تشترك معها في ما تعانيه من ارتفاع لمعدلات الفقر ونسب البطالة، وهذه الاستمرارية في إنتاج الإرهاب ومنفذيه تعكس النجاح في تصعيد مشاعر الحرمان إلى فعل انتقام طبقي ينفذه مهمشون عقائديون. إنتاج التطرف ارتبط بعناوين مختلفة وفرت بيئة مثالية لإنتاج إرهابي يرتكب العنف ضد مجتمعات صُورت له بأنها بؤر فساد وظلت هذه المنطقة محط اهتمام مختلف فصائل التيار الإسلامي منذ بداية تأسيسه إلى اليوم، وتخرج منها على مراحل متعاقبة أكثر عناصره تأثيرا وعنفا من تنظيم الإخوان منذ بداياته في عشرينات القرن الماضي إلى مرحلة صعود التنظيم وهبوطه، أو جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية أو التكفير والهجرة. ارتبط إنتاج التطرف بعناوين ومسميات مختلفة على مدى عقود طويلة بتوفر البيئة المثالية لإنتاج شخصية الإرهابي المدفوع لارتكاب العنف ضد مجتمعات صُورت له بأنها بؤر فساد وقهر وغصب، وضد أسلوب حياة الذي تنعم به طبقة في أعلى المجتمع، تم تكريس إدانتها بأنها سبب الحرمان الذي تعانيه الطبقات الأدنى، سواء الحرمان من الرفاهية أو التمثيل السياسي والمكانة الاجتماعية. وزع قادة الإسلام السياسي جهودهم لتحويل الدين عبر الانشغال بحواشيه من تفسيرات ومذاهب دون جوهره القيمي والأخلاقي إلى حافز للتمرد على الواقع القائم، إلى جانب استيعاب المهمشين اقتصاديا واجتماعيا لتعميق العزلة والانفصال عن المجتمع العلماني، ولتأجيج مشاعر الانتقام ضده. وتواصلت الجهود الموجهة لاستقطاب فئات مجتمعية داخلة في عداد الطبقة الأرستقراطية بغرض الحيلولة بينها وبين التمدين والتحضر والثقافة العصرية، أملا في إضعاف جبهة المواجهة على الجانب الحداثي العصري، وهذا يفسر اهتمام جماعات الإسلام السياسي بجامعات التعليم المدني، بعد الاطمئنان لحالة التعليم الديني كساحة لتخريج المنضوين للجماعات الدينية والمتعاطفين معها. أحرزت هذه الجهود مجتمعة نجاحا على مستوى استقطاب عناصر عديدة من مجتمعات النخب العصرية وخريجي التعليم المدني، وعلى مستوى تهيئة المناطق المهمشة اجتماعيا واقتصاديا كي تصبح مصدرا متجددا لوقود الإسلاميين في معركتهم من أجل الانفصال عن المجتمع العلماني وإعلان تحديه وممارسة الضغوط لتعديل ميزان القوة لصالحهم على مستوى التمثيل السياسي والمكانة الاجتماعية. لم تقتصر الجهود على اجتذاب من ألقتهم الحداثة على قارعة الطريق -بحسب وصف المفكر الفرنسي جيل كيبل- من قاطني الأحياء والمحافظات الفقيرة والعاطلين عن العمل وفاقدي الأمل، بل امتدت إلى طبقة متوسطة من خريجي التعليم الديني والتقليدي، عبر وضعهم في مواجهة طبقية مع خريجي التعليم العصري بدعوى سوء عدالة توزيع الامتيازات والحط من مكانة ونفوذ خريجي التعليم التقليدي. أصبحت أزمة التعليم ومشاكله وما كان عليه من ازدواجية في مصر أرضية ملائمة لتوسعة واستقطاب عناصر الجماعات الدينية، خاصة من خريجي التعليم الديني ممن كانوا يشعرون بالغبن وانسداد الآفاق. بداية عصر محمد علي، في منتصف القرن التاسع عشر، هي تاريخ بدء تقييد حركة الأزهر وتجريده من نفوذه السياسي، وعندما صاغ حسن البنا مؤسس الإخوان تصورا مختلفا لسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخالفا لتصور الشيخ محمد عبده وسيرا على نهج جمال الدين الأفغاني، عبر توظيفه كأداة للنفوذ السياسي، بدأ تحرك خريجي التعليم التقليدي بعيدا عن القيود التي طوقتهم، بغرض الاستفادة من الحالة الإسلامية الصاعدة لمعادلة النفوذ مع ذوي التعليم العصري والحداثي، باعتبارهم القائمين على إنفاذ سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ونشر مركز وثائق وتاريخ مصر الحديث إحصائية عن الوزارات بداية من العام 1878 إلى قيام الجمهورية في العام 1953، ولوحظ أن أزهريا واحدا لم يتول أي وزارة طوال ثلاثة أرباع القرن، ما عدا أربعة تولوا وزارة الأوقاف وهم: مصطفى عبدالرازق وعلي عبد الرازق ومحمد فرج السنهوري وأحمد حسن الباقوري، من جملة عدد الوزراء الذين بلغوا خلال هذه الفترة مئتين وثمانية وتسعين وزيرا. على مدار خمسة وأربعين عاما لم يتول وزير شيخ وزارة الأوقاف إلا هؤلاء الأربعة ولم يزد مجموع شغلهم لها إلا نحوا من سبع سنوات ونصف السنة، والشيخان مصطفى وعلي عبدالرازق لم ترشحهما للوزارة مشيختهما فقد كانا أقرب إلى جيل المؤسسات الحديثة فكريا واجتماعيا، حيث تلقى الأول قسما من تعليمه في فرنسا والثاني في إنكلترا. وجد مؤسس الإخوان الذي تلقى علومه في مؤسسات التعليم التقليدي “دار العلوم” في إسناد المناصب الإدارية والمراكز المرموقة لخريجي التعليم العصري فرصة لطرح نفسه زعيما ومصلحا لا في أوساط الفقراء والمهمشين اجتماعيا فقط، بل في أوساط خريجي التعليم الديني وفئة علماء الدين المتضررة من التهميش. وصف البنا في مقال له بمجلة النذير المعبرة عن جماعة الإخوان في العام 1939 هذا الواقع بالاستعمار الحقيقي، قائلا “بلغ عدد الذين في المدارس الأجنبية حوالي الخمسة والثلاثين ألفا ليسوا من أبناء الطبقات الفقيرة ولا المتوسطة بل هم من أبناء الوزراء والكبراء والمديرين والحكام والقضاة وغيرهم فيكون منهم الوزير والوكيل والقائد والحاكم، هذه هي القيود وهذا هو الاستعمار في الواقع”.
مشاركة :