أثارت الإعلانات الإشهارية مجدّدا في مصر جدلا في صفوف المشاهدين بمختلف طبقاتهم. وزاد في تأجيج هذه القضية تدخل أحد رجال الأعمال في أحد البرامج التلفزيونية للدفاع عن محتوى الإعلانات التي تروج لمشروعاته والتي تتهم بأنها تروج خطابا مغذيا للحقد الطبقي. وفي تفاعل مع هذه التطورات يجمع خبراء الإعلام في مصر على أن ما تقدّمه وسائل الإعلام من إعلانات في شهر رمضان يُظهر صورة جميلة للبلاد تتنافى مع حقيقة أوضاع الطبقات الفقيرة. فجرت مداخلة هاتفية أجراها رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، مساء الجمعة، مع برنامج “الحكاية” على فضائية “إم بي سي مصر”، جدلا كبيرا، حيث خرج الرجل ليدافع عن إعلانات مشروعاته التي تخاطب المرفهين، وصب غضبه على الرافضين لها. وساير طلعت مصطفى في ذلك مقدم البرنامج عمرو أديب، وبرامج أخرى، كرست جهودها للدفاع عن مصطفى، وتجاهل الغالبية من المواطنين الذين يتعرضون لموجة من الإعلانات جرى تعريفها في مصر بـ”الشحاذة”، حيث تخاطب القادرين على التبرع للفقراء. وتثير هذه الإعلانات موجة استهجان لدى الطبقات الضعيفة التي لا ترى نفسها فيها، كما تطرح عدة أسئلة أمام المراقبين بشأن ما يمكن أن تدخله من صراعات طبقية داخل المجتمع المصري. واعتاد محمود علي، وهو معلم ورب أسرة مصرية، انتهاج سياسة تغيير المحطات التلفزيونية الفضائية، كلما جاءت فقرة إعلانات لتجنب اليأس والإحباط، سواء كان الإعلان يروج لسلعة أو منتجع فاخر، أو يستهدف استجداء الناس بكلمات ومشاهد مؤثرة لحثهم على التبرع لمؤسسة خيرية متخصصة في علاج المرضى أو توفير الطعام للبسطاء في زمن كورونا. ولا تختلف نظرة الرجل الخمسيني لإعلانات شهر رمضان عن حال الكثير من المواطنين الذين أصبحوا يتعاملون مع المحتوى الإعلاني بتذمر، ما يدفعهم إلى الهروب من الفقرات الإعلانية. وتبني الكثير من الفئات الناقمة على إعلانات رمضان موقفها على أن هناك إصرارا على إظهار مصر في صورتين متناقضتين، الأولى بلد الرفاهية الذي يعيش سكانه في سعادة ولديهم منتجعات وإمكانيات مادية يستطيعون من خلالها شراء المتعة، والثانية بلد المهمشين و”الغلابة” الذين يواجهون الموت جوعا ومرضا ويتوسلون المساعدة. صراع الطبقات لا يحتاج الأمر إلى استطلاع رأي الجمهور حول المحتوى الذي غزا القنوات منذ بداية رمضان وأفرغ بعض المسلسلات من مضمونها، إذ تكفي ملامح الغضب التي تكسو وجوه المتابعين بمجرد التطرق إلى القضية، حيث تسمع كلمات وعبارات ربما لو وصلت إلى الجهة التي تروج للمنتج لقررت وقفه. الكثير من الفئات الناقمة على إعلانات رمضان تبني مواقفها على أن هناك إصرارا على إظهار مصر في صورتين متناقضتين وقال محمود علي، لـ”العرب”، إن أكثر ما يستفزه أن الإعلانات تنشر الفكر الطبقي وتصدر البؤس، وفي الحالتين يصاب المشاهد بالاكتئاب، فلا هو يستطيع مجاراة الرفاهية التي تروج لها، ولا هو يتحمل رؤية مواطنين عاجزين عن العلاج ولا يستطيعون توفير الحد الأدنى من الطعام ويظهرون على التلفزيون منكسرين. تحول المحتوى الإعلاني الذي يستعطف الناس للمشاركة في حملات التبرع بغرض العلاج وتوفير الطعام للبسطاء، إلى عادة موسمية في رمضان، حيث تستغل المؤسسات الخيرية اتجاه الكثير من المقتدرين لإخراج الزكاة، ويتمّ اللعب على هذا الوتر بمشاهد مؤلمة لمواطنين يفترشون الأرض في المستشفيات ويبكون لعدم وجود طعام أو سكن آدمي. بالتزامن مع ذلك تجد محتوى إعلانيا يروج لمنتجع فاخر بأرقام فلكية، يتحدث بعض سكانه عن رفاهية ومتعة الحياة، وأن الإقامة هناك تغنيهم عن الاختلاط بباقي الفئات، ما عرّض صاحبه رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى لانتقادات واسعة واتهامه بالطبقية والتمييز، واضطر إلى وقفه. كل هذا ساهم في توسيع قاعدة الاستقطاب حول الإعلانات، وقد وقفت بعض المنابر الإعلامية إلى جانب المحتوى المصنف على أنه طبقي، بحكم المصالح التي تربط أصحاب الشركات وملاك القنوات الفضائية التي هاجمت الأصوات المناوئة بدلا من إظهار وجهتي النظر. تعرض الإعلامي عمرو أديب لانتقادات لاذعة، عقب هجومه على معارضي إعلان المنتجع، وساير صاحبه هشام مصطفى في اتهامهم بأنهم “ليسوا أسوياء نفسيا”، لتبرير موقفه وتثبيت فكرة الطبقية بعد وصفه لمعارضيه بـ “أعداء النجاح”. ومضى على النهج نفسه الإعلامي أحمد موسى مقدم برنامج “على مسؤوليتي” بفضائية “صدى البلد”، وغاب عنه أن المحتوى المقدم يكشف زيف الواقع الذي طالما أنكره الإعلام التقليدي بتجاهل وجود فئات مطحونة وأخرى مرفهة، وأن الأولوية تركز على مخاطبة النخبة. ويرى حسن علي، أستاذ الإعلام بجامعة قناة السويس، أن إعلانات رمضان أزاحت الستار عن ازدواجية الكثير من المنابر، وكشفت النقاب عن خلل طبقي، والأكثر خطورة أن يكون هناك إصرار من المعلنين على استخدام أسلوب استفزازي في الترويج للسلعة حتى يكون اسم المنتج متداولا على نطاق واسع، ولو تعرض الإعلان لهجوم شرس. وقال في تصريح لـ”العرب”، إن المحتوى الإعلاني الذي يقدم للجمهور يدفعهم إلى الانفصال عن السياق المصري، فكيف تطالب إحدى المؤسسات الخيرية بأن يتبرع المشاهد بجنيه واحد لإنقاذ حياة إنسان وبعد دقيقة واحدة يأتي إعلان آخر يروج لسلعة أو منتجع فاخر بطريقة استفزازية، ما يترك لدى الناس حالة من الإحباط تدفع بعضهم إلى التمرد على واقعه المعيشي. وشارك حسن، الذي يرأس جمعية “حماية المشاهد المصري”، في إعداد قوانين تحكم المحتوى الإعلاني في بلدان عربية عدة، وهو ما جعله يعزو الأمر إلى “غياب الرقابة القانونية” معتبرا أنه “السبب وراء الفوضى التي تظهر على الشاشات ولا تحترم عقلية أو نفسية الجمهور المتلقي، بعكس المعمول به في دول مثل الإمارات والسعودية والمغرب”. ويعتبر الكثير من الداعمين للمحتوى الإعلاني الطبقي أن المشكلة تكمن في أزمة البسطاء مع المنتج، وليس مع الطريقة التي يتم من خلالها عرض السلعة، بغض النظر عن هويتها أو شكلها. لم يبن الساخطون على أي إعلان موقفهم على ضغينة أو اضطهاد للفئة المستهدفة، بل إن تذمرهم مرده أن الإبداع غاب عن الفكرة، وطريقة الترويج ليست احترافية وتصل أحيانا حد السذاجة والاستخفاف بعقول المشاهد، ما دفعهم إلى رفع راية العصيان الداخلي. كما أن قطاعا كبيرا من الجمهور يصب سخطه على إعلانات التبرعات لأنها غير مهنية وتضع المحتاجين في صورة المتسولين، ما يبرهن على أن الفئة الغاضبة ليست ضد العمل الخيري، بل ترفض الطريقة والأسلوب الذي يتم من خلاله مخاطبة المتبرعين، إذ لا يمكن أن يصل الأمر حد اعتبار التبرع للجهة فرض عين دعا إليه الإسلام في شهر الصيام. ما يثير استهجان البعض للإعلام، أن المؤسسات التي تتاجر بالفقراء والمرضى، تدفع مقابل الإعلانات التلفزيونية مبالغ فلكية، ربما لو تمت الاستفادة منها في تحسين أحوال أفراد الطبقة التي تطلب مساعدتها ليل نهار لتغيرت ظروف الآلاف منهم، بدلا من الاستعانة بفنانين ومطربين ونجوم كرة يتقاضون أموالا كبيرة نظير مشاركتهم في إعلان يحث الناس على التبرع. معروف أن القنوات لا تفرق بين مؤسسة خيرية وبين شركة كبرى في تكلفة المحتوى الإعلاني، ويدفع الجميع نفس المبالغ حسب مدة الإعلان، سواء كان ذلك بالدقيقة أو بالثانية، وفق التسعيرة التي تحددها إدارة القناة، لكن ما يثير الريبة أن تجد فنانا يروج لمنتج مرتفع التكلفة لا يقدر عليه سوى الأغنياء ثم تراه يشارك في إعلان لطلب تبرعات، في ازدواجية إعلامية تزيد حيرة الجمهور. بغض النظر عن قبول أو رفض البعض للازدواجية، فإن إعلانات رمضان كشفت عن أزمة حقيقية في مستوى الإبداع الإعلامي، فلا توجد فكرة تمثل أرضية خصبة لنجاح الحملة الإعلانية، أو متعة بصرية وعناصر إبهار وإقناع بالكلمة والصورة تجذب المشاهد للتفاعل مع المنتج، وبدت الإعلانات كأنها مسلسلات قصيرة تتكرر على كل القنوات.
مشاركة :