التحق العديد من المسرحيين الإماراتيين، انطلاقاً من أواخر سبعينيات القرن الماضي ووصولاً إلى العام 2016، بمعاهد مسرحية، في بلدان مثل الكويت ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة، بهدف الانتقال بتجاربهم من طور الموهبة والهواية إلى سبيل التأهيل والدربة ونيل الاعتراف الأكاديمي، ويلاحظ هنا أن أغلبهم أكمل سنوات الدراسة بتفوق منظور، وعاد ليقوم بدوره في إثراء المشهد المسرحي المحلي برؤاه وأفكاره المصقولة بالمنهجية الأكاديمية، سواء في ما يتصل بجماليات وتقنيات الممارسة المسرحية العملية، أو فيما يتعلق بالتنظير للفعل المسرحي، وبابتكار النظم والهياكل الحيوية والفاعلة للفرق والفعاليات المسرحية، أم من خلال التخطيط الاستراتيجي واقتراح برامج ومشاريع التدريب والتأهيل لبناء وضمان مستقبل واعد للنشاط المسرحي المحلي. كما يلاحظ، أن بعضهم لم يكتف بإحراز شهادة البكالوريوس، بل مضى في الدرب إلى غايات أبعد، فنال شهادة الماجستير أو الدكتوراه، وأغنى المكتبة المسرحية بأبحاث وقراءات مهمة، شكلت، على مدى سنوات، مصدراً مهماً للباحثين والمهتمين في تاريخ وتفسير وقراءة العديد من قضايا وظواهر الساحة المسرحية المحلية، خاصة في مجالات الإخراج والتأليف والتمثيل المسرحي، وعلاقة «أبو الفنون» بالمدرسة والمجتمع والهوية والحداثة، وغير ذلك. نحاول، في ما يلي، أن نتعرف على الأسباب والخلفيات التي دعت هؤلاء إلى دراسة المسرح، وكيف تم استقبالهم، خاصة في البدايات، وإلى أي مدى أثروا في التقاليد والتوجهات والممارسات التي عرفتها الحركة المسرحية في العقود الثلاثة الماضية، وذلك من خلال قراءة واستعراض تجارب بعضهم وعبر استنطاق ومحاورة بعضهم الآخر. بداية البدايات بدأ الاهتمام بإنشاء المعاهد المسرحية في البلدان العربية متأخراً بعقود عدة على معرفتها هذا الفن الوافد؛ فأول معهد مسرحي تم تأسيسه في مصر، مهد النشاط المسرحي العربي، 1944 -بعد بداية متعثرة له في عقد الثلاثينيات- وفي الفترة ذاتها تقريباً افتتح معهد الفنون الجميلة في العراق، ثم في تونس (1951)، وفي الجزائر (1965)، وفي السودان (1969)، وفي الكويت (1972)، وفي سوريا (1977)، إلخ. لكن، قبل افتتاح هذه المعاهد، سافر أو ابتعث العديد من المسرحيين العرب إلى أوروبا «تحديداً إلى فرنسا» لدراسة الفن المسرحي وبعد عودتهم إلى بلدانهم أسهموا في نهوض المسرح وتعزيز مكانته بمجتمعاتهم. ولعل أول أولئك الذين سافروا إلى الغرب لتعلم المسرح كان اللبناني جورج أبيض (1880ـ 1959) إذ انتقل إلى فرنسا على نفقته الخاصة، قبل أن يخصص له الخديوي عباس الثاني راتباً شهرياً بعد ثلاث سنوات من دراسته، وقد عاد سنة 1910، بصحبة فرقة فرنسية، وأحدث نشاطاً مسرحياً في القاهرة، وبعد عامين أسس فرقة مسرحية محلية، ثم صار أول مدير منتخب لأول نقابة للممثلين في مصر. ومن بعد رحلة أبيض، وتحديداً في سنة 1925 أوفدت الحكومة المصرية الفنان زكي طليمات (1894 ـ 1982) إلى فرنسا لدراسة المسرح، ورجع بعد ثلاث سنوات مستكملاً بعثته، وأسهم في تأسيس أول معهد للتمثيل في القاهرة (1939). ومثلما كان لأبيض أثره في تعميق المعرفة المسرحية في العديد من البلدان العربية خاصة في شمال أفريقيا، عبر فرقته التي قدمت عروضها في الجزائر وليبيا وتونس، كان أيضاً لطليمات، المخرج والمترجم والمخطط المسرحي، دوره المهم في تعزيز وتطوير الاهتمام العلمي بالمسرح في مصر، كما نشط في المسرح التونسي (1954-1957)، ثم في الكويت (1961-1963)، وامتد حضوره إلى الإمارات مطلع السبعينيات، حيث قدم محاضرات عدة قبل أن يعد خطة للمسرح المدرسي في الدولة، بتكليف من وزارة الدولة لشؤون الإعلام والثقافة، واعتبرت «أفضل تصور موضوعي وواقعي للحركة المسرحية في بلادنا»، كما ذكر عبدالرحمن الصالح، في بحث قدمه بمهرجان أيام قرطاج المسرحية 1983. وكما هو واضح من مسارهما، لم يقتصر أثر دراسة أبيض وطليمات للمسرح على نفسيهما، بل امتد على كامل المشهد، حضوراً إبداعياً ونظاماً إدارياً ومدرسياً ساهم كثيراً في أن يحقق المسرح، كفن ووسيلة معرفية، مكانة عالية في المجتمع، ليس في مصر فحسب، إنما في كامل الخريطة العربية. ولم يختلف الأمر في تجربة الذين درسوا المسرح بصفة أكاديمية من الإماراتيين، فلقد كان لهم دورهم المنظور في تأصيل وتعزيز هوية وشخصية المسرح المحلي، كما كان لهم إسهامهم الملموس في تعميق عناية الدولة به ودعمه وتحفيز المشتغلين به، من خلال اقتراح خطط الارتقاء بفرقه ومؤسساته، وعبر برامج اكتشاف وتدريب المواهب، ومن خلال إنشاء الجمعيات، وعبر المقالات والمقابلات والأبحاث والتعليقات المنشورة في الصحف والمجلات والمبثوثة عبر الإذاعات المرئية والمسموعة.. إلخ. لكن جهود المتخصصين في المسرح من الإماراتيين ربما ما كانت لتتخلق وتوجد لولا تفهم وقابلية المؤسسة الثقافية الرسمية التي بادرت خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات بإقامة سلسلة من الدورات والبرامج الهادفة إلى تطوير الممارسة المسرحية، وهي استقدمت في هذا السبيل العديد من المسرحيين الأكاديميين العرب، واستعانت بهم في فتح طريق التعلم والصقل والتجويد أمام المسرحيين المحليين الذين اتسمت أجيالهم الأولى بإرادة واضحة ورغبة أصيلة للمعرفة والاكتشاف واختبار التجارب وتحقيق النجاح، بشهادة العديد من الخبراء المسرحيين العرب الذين عملوا في ذلك الوقت. تجربة صقر الرشود وفي ما تقول الرواية، فلقد شهد النصف الثاني من السبعينيات، استقدام المسرحي الكويتي صقر الرشود (1941-1978)، في تجربة أولى مع فرقة مسرح الشارقة الوطني قبل إشهارها باسمها المعروف الآن، وذلك عندما كانت تعد لإنجاز مسرحية «شمس النهار»، 1977، تأليف محفوظ عبدالرحمن، وقد تمت الاستعانة بالرشود لإخراجها، وقد نجح في ذلك نجاحاً واسعاً، وما لبثت وزارة الإعلام والثقافة أن استقطبت الفنان الكويتي ليحل كأول خبير مسرحي في الدولة 1978، وبرغم قصر فترة عمله (من مارس إلى ديسمبر من العام ذاته)، هو الذي لم يدرس المسرح (تخرج في جامعة الكويت متخصصاً في العلوم السياسية 1974)، إلا أن الرشود أحدث أثراً بالغاً بذهنيته التخطيطية الرشيدة، فلقد عمد إلى الاستعانة بثلة من أكاديميي المسرح العربي، لمساعدته في ترجمة خبرته وتجسيدها في المشهد المسرحي الإماراتي، وفي مقدمهم كان العراقي إبراهيم جلال (1923-1991)، الذي كان قد تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد (1945)، وحصل على الماجستير في معهد شيكاغو الفني بالولايات المتحدة حول منهج برتولت برشت 1963، كما استعان الرشود بالفنان البحريني خليفة العريفي الذي يعد من طلاب زكي طليمات في الكويت، كما يعتبر من أوائل الطلاب العرب الذين تخرجوا في المعهد المسرحي الكويتي 1977. وبحسب خطة الرشود، توزع ثلاثتهم على مناطق الدولة، حيث حل الرشود في أبوظبي، وذهب جلال إلى الشارقة، واشتغل العريفي في رأس الخيمة. وبعد وفاة الرشود، استمر جلال لفترة قصيرة وغادر وقد شارك في إخراج مسرحية واحدة هي «الفخ» من تأليف محفوظ عبدالرحمن، وشاركت بها الإمارات في مهرجان دمشق المسرحي 1980، لكن جلال كان له دوره التعليمي المهم أيضاً، فمما ينسب للراحل محمد عبدالله العلي (1955-2014) قوله إن جلال «عرفنا بتثبس، ويوربيدس، وأسخيلوس، وشكسبير، وبريشت، وبيرانديللو، وبيتر بروك.. وغيرهم» (عبدالإله عبدالقادر: جريدة البيان، 04 نوفمبر 2012). أي أنه عرفهم بتاريخ المسرح منذ العصر الأغريقي إلى العصر الحديث. على أي حال، بقي العريفي نحو ست سنوات، وفي وقت لاحق انضمت إليه أسماء مسرحية أكاديمية عربية أخرى، مثل الفنان العراقي فاروق أوهان (1943-2013)، والفنان السوداني الريح عبدالقادر (1943ـ2012)، ومواطنه يحيى الحاج (1944ـ2018)، وسواهم. وحسب إفادة سابقة للراحل أوهان، الذي كان يعمل بقسم المسرح في وزارة الإعلام والثقافة، فلقد نتج عن جهود الرشود ورفاقه، تأسيس الهياكل الإنتاجية للمسرح المحلي، سواء بالتنسيق مع قسم المسرح بالوزارة، أو عبر التواصل مع الفرق المسرحية، كما تأسست فرقة المسرح القومي، وتم التخطيط لإطلاق مسابقة للتأليف المسرحي وإنجاز بنك للنصوص، (المسرح في الإمارات: الحاضر والمستقبل: 1994، ص 12)، وفي ما يُذكر فإن جلال عمد، عقب رحيل الرشود، إلى اقتراح تصور للنهوض بالمسرح «الوثيقة المؤرخة بـ: 29-11-1978م، وتضمنت تفاصيل مشروع جلال، بشأن نهضة مسرحية متطورة، تبدأ من الممثل، مروراً بالكاتب، فالمخرج، فالجمهور، فالبنية التحتية.. وتشتمل أيضاً على اقتراح باستقطاب دراماتورج وضرورة تنظيم دورة مسرحية متكاملة وتأسيس معهد مسرحي متوسط بالتنسيق مع وزارة التربية، (عبدالإله عبدالقادر: جريدة البيان، 08 يوليو 2012). أما من الناحية الفنية فيمكن القول إن هؤلاء الخبراء ساعدوا العديد من المسرحيين المحليين على تملك المعارف التقنية وفهم المبادئ والمفاهيم الأساسية للمسرح وفق المنهجية العلمية، عبر الأعمال المسرحية التي تصدوا لإخراجها، برغم أن عروضهم لم تخلق أصداء جماهيرية واسعة، نسبة لطابعها المختلف، إلا أن كل بروفة لتجهيز عرض ما، كانت بمثابة ورشة تدريبية في علوم المسرح. وبالمجمل، كان لحضور هؤلاء المسرحيين العرب تأثيره، إلى جانب عوامل أخرى (مثل اهتمام وزارة الثقافة)، في خلق بيئة مسرحية أكثر وعياً بطرق وأساليب استخدام الأدوات والوسائط المسرحية، من لغة وصوت وإضاءة وتلوين ومحتوى ودلالة. على أن ما يهمنا في هذا السياق هو: التأثير المباشر لهؤلاء الخبراء في توجه بعض المسرحيين المحليين إلى دراسة المسرح بصفة أكاديمية. إرشاد.. وطريق بطريقة أو بأخرى، ساهم خبراء المسرح الذين تم استقدامهم في النقلة التي ستتحقق لاحقاً في سيرة المسرح الإماراتي، سواء في ما يتعلق بالمستوى الفني لهذا المسرح أو مكانته في المجتمع أم في ما يتصل بزيادة نسبة المنتسبين للمعاهد المسرحية بين المشتغلين فيه. وفي هذا الاتجاه، نجد أن العريفي كان ملمحاً مهماً في قصة التحاق أول اثنين توجها لدراسة المسرح من الإماراتيين وهما إبراهيم بوخليف وعبدالله الأستاذ، فبعد الصدى الذي حققته مسرحية «حرامي من بعيد»، وهي من تأليف بوخليف وإخراج العريفي 1978، وشهدها الدكتور عبدالله النويس الذي كان وكيل وزارة الإعلام والثقافة حينذاك، عندما قدمت في النادي السياحي في أبوظبي، وأعجب بها وقال لبوخليف «أنت لازم تدرس مسرح». وعمل على تسهيل إجراءات انتساب بوخليف وعبدالله الاستاذ إلى المعهد المسرحي في الكويت، وعندما غادرا رافقهما العريفي الذي سبق أن درس في ذلك المعهد. (إبراهيم بوخليف: مجلة بشت الفنون: يوليو 2018). كما كان للعريفي تأثيره -إلى جانب المخرج المصري مجدي كامل- في شغف المخرج والباحث والممثل الإماراتي حبيب غلوم بالمسرح وإنجازه مساره العلمي المعلوم. أما إبراهيم جلال فلقد كان حاضراً -إلى جانب سليمان الجاسم، في مناسبة التحاق المخرج حسن رجب بالمعهد ذاته، فبعدما استجاب رجب لدعوة الجاسم بالسفر لدراسة المسرح نصحه جلال بأن يذهب إلى العراق، إلا أن رجب اختار الكويت، حيث وجد عبدالله الاستاذ وكان بمثابة داعم ومحفز له للاستمرار في الدراسة. (حسن رجب: مجلة المسرح، دائرة الثقافة ـ الشارقة فبراير 2019). أما الممثل والمخرج إبراهيم سالم فلقد حضه على السفر لدراسة المسرح في الكويت، الفنان الراحل يحيى الحاج، ووجد عمر غباش المشورة والتحفيز من المخرج التونسي منصف السويسي (1944-2016) الذي نصحه بالذهاب إلى مصر أو الكويت ولكن غباش توجه لدراسة المسرح في الولايات المتحدة. ولسنوات عدة لاحقة، عمل هؤلاء الطلاب الإماراتيون بدورهم، بعد تخرجهم، على حث رفاقهم وتشجيعهم لدراسة المسرح، فلقد شجع غلوم صديقه وليد الجلاف على الذهاب إلى المعهد الكويتي لدراسة الديكور، والجلاف حث وليد الزعابي على دراسة اختصاصه وبالمعهد ذاته.. إلخ. ولم يكن اختيار دراسة المسرح سهلاً بالنسبة لأغلبهم، فأسرهم اعترضت، ومجتمعهم سخر منهم، كما أن فرص التوظيف في مجالات إدارية عديدة كانت متاحة ومغرية لكن برغم كل ذلك صمموا على تحقيق تطلعاتهم ومضوا في المشوار إلى آخره. الشهادة.. والأثر ما يسترعي الانتباه في سيرة دارسي المسرح من الإماراتيين أن معظم أجيالهم الأولى حققت حضوراً متميزاً في سنوات الدراسة الأكاديمية، خاصة في الكويت، ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى أسماء مثل: بوخليف والأستاذ وحسن رجب وإبراهيم سالم وسواهم، كما أن مما تسهل ملاحظته اهتمام الدولة بهؤلاء الخريجين، فمباشرة، بعد تخرجهما 1983 تم توظيف بوخليف والاستاذ، في قسم المسرح بوزارة الإعلام والثقافة، ترأس بوخليف، وهو شاعر أيضاً، قسم المسرح للمناطق الشمالية كما انتخب رئيساً لمسرح رأس الخيمة، وقدم مع هذا المسرح عمله المهم «أنقذوا المريخ» 1985، من تأليفه وإخراجه، والذى حقق نجاحاً كبيراً وساهم في تقديم عدد من الوجوه التمثيلية في الإمارة، وفي الأعوام التالية توزع نشاطه بين المسرح والتلفزيون. أما الأستاذ فلقد ترأس إدارة المسرح في وزارة الإعلام والثقافة في أبوظبي، وكرس نشاطه في مجال مسرح الطفل، ويعتبر رائداً في هذا الجانب، وقد قدم نحو 30 عملاً مسرحياً للصغار خلال مسيرته، وأسس مسرح ليلى للطفل 1983، كما شارك في العشرات من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية. الفجر الجديد في النصف الثاني من الثمانينيات بدأت أعداد الخريجين تتزايد ولكن ببطء، جاء حسن رجب 1986، ثم حبيب غلوم 1987، وإبراهيم سالم وجمال مطر وعمر غباش ووليد الجلاف 1988، ومثلما رعتهم أثناء سنوات الدراسة عمدت الدولة أيضاً إلى احتضانهم فور تخرجهم وأتاحت لهم الإمكانيات لاختبار قدراتهم والعمل على الارتقاء بتجربة المسرح المحلي، خاصة عبر إدارات وزارة الثقافة. وكانت الساحة المسرحية قد بدأت تحصد ثمار البرامج التدريبية التي نظمت تحت إشراف ثلة من المسرحيين الأكاديميين العرب الذين تم استقدامهم، وتزايدت أعداد الفرق المسرحية، وكان لإطلاق مهرجان أيام الشارقة المسرحية وإنجازها لأربع دورات تأثيره القوي في حيوية المشهد، وفوق كل ذلك ثمة الدعم السخي الذي قدمه ويقدمه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة. وفي هذا الإطار، تجب الإشارة إلى أن المسرح الإماراتي في ذلك الوقت لم يكن يخلو من الاكاديميين، فأغلب المنتسبين للفرق كانوا من خريجي الجامعات، ويمكن أن نلفت بصفة خاصة إلى فرقة المسرح الحر، التي نشطت في الفترة 1983- 1986، وأسستها مجموعة من طلاب جامعة الإمارات، وكانت تضم أسماء مهمة مثل الراحل أحمد راشد ثاني (1962--2012)، وإسماعيل عبدالله، وناجي الحاي ومحمد الدوسري ويحيى الصوري، وحسام عزت، ولقد تميزت عروض هذه الفرقة بطابعها الحداثي وهمومها الثقافية. وإلى جانب أعضاء هذه الفرقة كان هناك العديد من المسرحيين المحليين المتخرجين من جامعة الإمارات والذين انخرطوا أثناء حياتهم الطلابية في تلك الورش التي نظمت في الشارقة ودبي ورأس الخيمة وخورفكان وسواها، وأشرف عليها أولئك الأساتذة العرب. إذن، تلاقت هذه الطاقات القادمة من الخارج مع المتواجدة في الداخلة، وسعت مجتمعة إلى الانتقال بالمسرح الإماراتي إلى آفاق أكثر حداثة وجدةً، قاطعة مع ما عُرف بـ«المسرح الجماهيري»، ومؤسسة لزمن مسرحي مغاير، قوامه الإتقان والجودة والوعي النقدي والحساسية الجمالية الرفيعة، سواء في الكلمة أو الحركة.. في النص أم في العرض، في الشكل أم في الموضوع. ولعلنا نلمس جانباً من رؤى هذه النخبة المسرحية المتعلمة حين نقرأ لواحد منهم وهو يرحب بخريجي المعاهد المسرحية بكل تطلع وطموح: «مبعوثينا عادوا وهم يحملون المؤهلات التي حصلوا عليها من المعاهد المختلفة، بل لقد بدؤوا في العمل وهذه تباشير فجر جديد.. لأنهم بالضرورة سيكتشفون ماذا تعني الفرجة بالنسبة لمواطنيهم.. الذين اعتمدوا على الفرجة الوافدة من دول الخليج والبلاد العربية إلا ما ندر من فرجة غير مكتملة الشروط والبناء والرؤية.. لابد أنهم سيحفرون في واقعهم وينقبون في تراثهم لأنهم بعض منه في مثابرة جادة لإيجاد هوية خاصة للفن المسرحي في بلادنا، ولابد أنهم سيقومون بدراسة واقعهم الاجتماعي مسرحياً، وسيضعون نصب أعينهم الراهن لإنضاجه وفتح الأبواب نحو المستقبل». (إسماعيل عبدالله: واقع الفرق المسرحية في الإمارات: 1994). وبعد نحو عشر سنوات سيكتب المخرج عبدالإله عبدالقادر، الذي يعتبر من أبرز مؤرخي حركة المسرح في الدولة: «شكل هؤلاء الخريجون قاعدة جيدة وجديدة تعتمد على فهم أكاديمي مبرمج للمسرح وسدوا ثغرات كبيرة في التجربة المسرحية المحلية بل حققوا نقلة موضوعية، في طبيعة التعامل داخل الفرق المسرحية وعلى خشبة المسرح بالذات وانتشروا في أوساط المسرحيين والفرق المسرحية ليمنحوا المسرح المحلي صورة جديدة مضافة إلى ما حققه في سنوات تاريخه السابقة التي اعتمدت على الفنان الفطري صاحب الموهبة والتجربة فقط». (عبدالإله عبدالقادر: حولية المسرح: العدد الثالث 2003). تجارب ومسارات من الصعب حصر وتحديد ما قدمه خريجو المعاهد المسرحية لكثرته وتنوعه ولكن يمكن القول إنهم استكملوا، وبصورة حيوية، ما بدأه أولئك الخبراء العرب الذين استقدموا في البدايات، خاصة في مجال التأهيل والتدريب، فلقد انخرط سالم وغلوم ورجب وغيرهم في الإشراف على الورش التدريبية عقب عودتهم مباشرة، كما ساهموا في تأسيس قواعد هيكلية لاستمرارية النشاط المسرحي وتطوره، ونذكر في هذا الجانب مساهمات غباش في تأسيس جمعية المسرحيين 1994 وإدارتها لاحقاً، لوقت ليس بالقصير، وكذلك إسهامه في تأسيس صندوق التكافل الخاص بالمسرحيين، فضلاً عن جهوده في الإشراف على الورش التدريبية وتقديمه للعديد من الوجوه المسرحية الشابة، من دون أن ننسى حضوره الساطع في المؤتمرات والندوات المسرحية، محلياً ودولياً. وعلى صعيد الإضافات الفنية، كان لأغلبهم أثره اللافت في هذا الجانب، وباختصار نأمل ألا يكون مخلاً، نشير إلى أن أولى الأعمال المسرحية الإماراتية التي شاركت في مهرجانات عربية، ارتبطت بخريجي المعاهد المسرحية، ونذكر في هذا الجانب التجارب المتميزة لجمال مطر، تأليفاً وإخراجاً، خاصة مسرحيته «جميلة»، التي أخرجها في فضاء بحري، والتي مثلت الدولة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1992، وكذلك ثمة إخراجه لمسرحية «راعي البوم عبرني» تأليف إسماعيل عبدالله، والتي مثلت الدولة في مهرجان أيام قرطاج المسرحية 1993. كما تجب الإشارة إلى مساهمات الدكتور حبيب غلوم، كممثل ومخرج وباحث، في هذا الجانب، لاسيما تأليفه وإخراجه مسرحية «المنديل» التي حاور من خلالها نص «عطيل» لوليم شكسبير، وهي تعد أول مسرحية تمثل الدولة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1988، ولقد وجدت أصداء واسعة، وإلى جانب كتابته النصوص وإخراجه العروض، لغلوم العديد من الجهود العلمية والمشاركات البحثية، محلياً ودولياً، هو الذي استكمل دراسته المسرح بإنجاز رسالة دكتوراه في المملكة المتحدة 1999. وإلى جانب غلوم ومطر، شارك في هذه العروض العديد من الخريجين كممثلين، ولكننا نشير بصفة خاصة إلى مصمم الديكور وليد الجلاف، الذي يعتبر أول متخصص في هذا المجال من الإماراتيين، إذا لم يكن هناك سوى الفنان السوري عبد الكريم عوض، والجلاف هو صانع التصاميم الملهمة لأبرز العروض المسرحية المحلية التي قدمت في ذلك الوقت، وهو فاز بجوائز عن إنجازه لديكورات أعمال عرضت في مهرجان المسرح المحلي: مثل»حبة رمل«1991، و» جميلة«1992، و«مال الله الهجان» 1993، كما ظفر بالجائزة عن تصميمه لديكور المسرحية ذاتها في أيام الشارقة المسرحية 1994. وفيما يتصل بتجربتي حسن رجب وإبراهيم سالم، فلقد حققا العديد من الجوائز على مدار دورات أيام الشارقة المسرحية، كما مثلا الدولة في العديد من المهرجانات المسرحية العربية. علامات بالمجمل يمكن القول إن ثلة المتخرجين في المعاهد المسرحية أسهمت على مدار العقود الثلاثة الماضية في تشكيل خطاب علمي حول ظواهر المسرح المحلي وفعالياته حيث أبرزت خصائصه ومزاياه، وواصلت وضع الخطط والمنهجيات التي تحول الممارسة المسرحية من نشاط خاضع للمبادرات والاعتبارات الشخصية إلى نشاط مؤسسي، مسنود بالرؤى الواضحة والإرادة القوية، كما اجتهدت في فحص وفرز ونقد العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة، وسلطت أضواء جديدة على مكنوزات التراث، وقرأت وقاربت ما صاحب حركة التغيير المجتمعي من إشكاليات وتحديات فوق خشبة المسرح، وجددت اللغة والصورة وأنماط الأداء، وعززت مكانة النشاط المسرحي في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، سواء عبر التعليقات أوالمقابلات والمقالات والدراسات، بجملة واحدة: صنعت ازدهار المسرح الإماراتي.
مشاركة :