يؤكد الإسلام ضرورة نشر الثقة وحسن الظن بين الناس، ويعتبر ذلك الخلق الرفيع من الآداب التي ترسم للمسلم صورة أخلاقية وسلوكية مثالية، وتسهم في بناء شخصيته على قيم رفيعة، حتى يحظى برضا خالقه أولاً، وثقة كل المحيطين به، والمتعاملين معه ثانياً، ومن شأن من يفعل ذلك أن تستقيم حياته، ويؤدي رسالته على الوجه الأكمل، ويسهم بفاعلية في بناء مجتمعه ونهضته، ويواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية التي تشيع سوء الظن بين الناس.. حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا».. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». الظن كما قال علماء الأخلاق قسمان: - قسم سيئ: ويكون في أمور منها التهمة، والتخوين من دون أدلة، وهو الذي نهى عنه القرآن وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث الشريفة.- وقسم حسن: وهو ألا يتهم المسلم أو يخوِّن أحداً، بل يفكر في الناس خيراً، ويحسن الظن بهم، وهو ما يحث عليه القرآن، كما في قوله تعالى: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً».. فإذا كان القرآن يحثنا على حسن الظن والثقة في أهل الكتاب، فما بالنا بالمسلمين؟يقول د. بكر زكي عوض، العميد السابق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر: حسن الظن خلق إسلامي رفيع ينبغي أن يلتزم به كل مسلم، فلا يخون مسلماً أو يتهمه بتهمة من دون أدلة دامغة، ومن شأن من يلتزم بهذا الخلق القويم أن يكون محل ثقة وتقدير كل من يتعامل معهم. صورة راقية إن حُسن الظن يسمو بسلوك الإنسان فوق الصغائر، ويرسم لعلاقته بالناس صورة راقية تغلفها المعاني الإنسانية الرفيعة، فيكون إنساناً سوياً متحضراً، قادراً على التعايش والتعاون مع كل المحيطين به، متجنباً للرذائل، مجسداً صورة حضارية لدينه، ملتزماً في سلوكه وأخلاقه وتعاملاته مع الناس جميعاً، بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه خالقه «وإنك لعلى خلق عظيم».والقرآن الكريم من خلال نصوصه الواضحة ينشر حسن الظن ويعمق الصلات والعلاقات الإنسانية بين كل أفراد المجتمع لما يترتب على ذلك من منافع ومكاسب للفرد والمجتمع، ومن شيوع للثقة بين الناس جميعاً، لذلك كان شعاره في العلاقات الإنسانية وفي المعاملات «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، ولا يمكن أن يتحقق تعاون من دون إحسان الظن بالناس، وعدم التسرع في اتهامهم من دون أدلة وبراهين إدانة واضحة. سلوك مرفوض ويضيف: إن القرآن يرفض بشكل حاسم سلوك هؤلاء الذين يسيئون الظن بالآخرين ويجسدون الخطايا فيهم من دون أدلة وبراهين دامغة، كما يرفض ويدين سلوك هؤلاء الذين ينظرون إلى الآخرين من خلال منظار أسود، هؤلاء الذين يوزعون اتهاماتهم وشبهاتهم حول خلق الله من دون مقتضى لذلك، فالأصل عند هؤلاء أن الناس جميعاً متهمون، بل مدانون ومذنبون ومتآمرون، وقد حذر الإسلام هؤلاء من غضب الله عليهم، وتوعدهم بسوء العاقبة نتيجة ما يقترفون من معاصٍ وذنوب وظلم للآخرين.. ويكفي هنا تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء»، وعن السيدة عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن».يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم»: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله تعالى: «ولا تجسسوا» وذلك أن الشخص يريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، وهذه الآية تتفق مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا، أو يعملوا به». منافع حسن الظن ويعدد د. محمد علي المرصفي، أستاذ التربية الإسلامية بجامعة طنطا، مكاسب شيوع حسن الظن بين الناس، فيقول: لحسن الظن الذي حث عليه الإسلام منافع ومكاسب عديدة، فهو يحقق للإنسان رضا الخالق وعفوه ورحمته، كما يجلب له حب واحترام وتقدير الآخرين، ولذلك يجب على المسلم أن يحسن الظن بالناس جميعاً، لأن انتشار سوء الظن يؤدي إلى التباغض بين الناس، وتترتب عليه نزاعات ومشاحنات وجرائم وفساد في الأرض، وكم أزهقت أرواح وحرقت بيوت ودمرت مركبات وخربت زراعات بسبب شائعة كاذبة أو سوء ظن برجل أو امرأة.ويضيف: واجب المسلم في كل الأحوال أن يستجيب لنداء خالقه ويتجنب سوء الظن والتجسس والغيبة والنميمة، وهو مطالب بالاستجابة لنداء رسول الله الخاتم صلى الله عليه وسلم:«...لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا». فالنهي هنا للتحريم وليس للكراهة.. وعلينا أن نحسن الظن بالله وبالناس، حتى يتحقق لنا وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن المؤمن إلا وهو يحسن بالله الظن».. ومعنى حسن الظن بالله الوارد في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي» أن يظن المسلم أن الله سيعفو عنه ويرحمه. وقد عد العلماء رمي الأبرياء باتهامات ظالمة، من الكبائر، فمن أساء الظن بغيره ونسب له شراً بمجرد الظن، حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه والتجسس عليه وكلها مهلكات منهي عنها. مكافأة من الله وإذا كان سوء الظن بالمسلمين من الكبائر، فإن سوء الظن بالله يخرج بالمسلم عن دائرة الإيمان، ولذلك يجب على كل مسلم أن يحسن الظن بخالقه ورازقه وواهبه الحياة، فهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.ويجب أن يكون المسلم على ثقة تامة بأن حسن الظن من الأخلاق التي يكافئه الله عليها بإجابة الدعاء، فإذا أحسن الظن بربه عندما يتوب إلى الله، يقبل الله توبته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».ومن مكاسب ومنافع حسن الظن بالله، أنه سبحانه يغفر ذنوب عبده إذا أخطأ وأراد أن يتوب ويرجع إلى الله تعالى، حتى ولو عاد للذنب مرة بعد أخرى ما دام في كل مرة كان صادق العزم، وأراد أن يتوب وأقبل على التوبة صادقاً مخلصاً.وهكذا يكون لفضيلة «حسن الظن» أثرها على استقرار حياة الإنسان في الدنيا، حيث تؤدي إلى تفريج الكروب وفي الآخرة يثمر حسن الظن غفران الذنوب، وبقدر حسن ظن الإنسان في خالقه ورجاء رحمة ربه ينال الإنسان من فضل الله تعالى وكرمه أكثر مما يتوقع، وعلى كل مسلم أن يوقن أن الله سبحانه قريب منه ويحقق له ما يريد. تحذير.. ونصيحة ويعود د. بكر زكي عوض ليحذر هؤلاء الذين يدمنون إساءة الظن بالآخرين، ويسارعون إلى تخوينهم، واتهامهم بما ليس فيهم، ويأخذونهم بالشبهات.. فيقول: توبوا عن هذه الخطايا التي تجلب لكم غضب الله وعقابه، واعلموا أن الإسلام لا يقبل التجسس على الناس لكشف عيوبهم، فهو دين ستر وعفو ورحمة ومغفرة، وينشر الثقة وحسن الظن بين كل الناس، واعلموا أيضاً أن صيانة أعراض الناس والمحافظة على حرماتهم وسمعتهم وكرامتهم من فرائض الإسلام وواجباته الأساسية حتى تقوى الصلات والعلاقات الطيبة بين الأفراد، وحتى يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، كما قال القرآن، وحتى تختفي من بينهم كل أسباب الفرقة، وينتفي كل ما يزرع في النفوس العداوة والبغضاء.أحسنوا الظن بالله، وبادروا بالتوبة عقب كل ذنب، وأحسنوا الظن بإخوانكم المسلمين، واعلموا أنه لا يحل لمسلم أن يتهم غيره بفحش أو ينسب إليه فجوراً أو يسند إليه إخلالاً بواجب، أو يتهمه في دينه ومروءته، فقد أمر الله بالتثبت ونهى عن الجري وراء الظنون السيئة، وتذكروا دائماً قول الحق سبحانه: «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا».
مشاركة :