ليس مفهوما بالضبط الدافع وراء إنتاج فيلم جديد عن “إنقاذ” يهود الفلاشا الإثيوبيين ونقلهم إلى إسرائيل في أوائل الثمانينات، بعد أن ظهرت عن الموضوع نفسه أفلام أخرى، روائية وتسجيلية. لكن الملاحظ أن هذا الفيلم يأتي في وقت اشتدت فيه أزمة الثقة بين يهود الفلاشا والسلطات الإسرائيلية وأعلنوا تمردهم بكل قوة وعنف، بعد عقود من القمع والاضطهاد والتفرقة العنصرية داخل إسرائيل التي كانوا يتخيلون في بادئ الأمر أنها ستكون ملاذا يوفّر لهم الأمن والعدل والاستقرار. أليست إسرائيل كما تزعم “دولة اليهود”؟ وأليس “الفلاشا” من أقدم الجماعات اليهودية في العالم؟ الفيلم الجديد “منتجع البحر الأحمر للغطس” The Red Sea Diving Resort أنتج للسوق العالمي أساسا، تبثه شبكة نتفليكس عبر شبكة الإنترنت، وهو ناطق بالإنكليزية وفي أدوار البطولة هناك طاقم عالمي يتصدّره النجم الأميركي كريس إيفانز مع بن كنغسكي وهايلي بينيت ومايكل هويسمان وألكس هاسل. البطل التقليديصوّرت المناظر الخارجية للفيلم في جنوب أفريقيا. وتسويق الفيلم لجمهور لا يعرف شيئا عن يهود الفلاشا أو عملية ترحيلهم قبل أكثر من 35 عاما، يعتمد على أسلوب الإثارة البوليسية، الذي لا يبدو أن المخرج الإسرائيلي متمكن منه، فالسيناريو الذي كتبه بنفسه، ملئ بالثقوب والمبالغات والشخصيات والمواقف النمطية مع افتعال الغموض والتغاضي عن جوانب أساسية في موضوع كهذا. كما أن أسلوب الإخراج ينتقل انتقالات غير محسوبة بين المشاهد، بحيث كثيرا ما يستعصي علينا فهم ما يجري. فنحن لا نفهم إنقاذ الفلاشا من ماذا بالضبط؟ وهل مما يحدث في إثيوبيا أم في السودان حيث يقيمون في مخيمات محمية جيدا، ولا كيف يقدّم لهم عملاء الموساد الطعام والشراب بعد نقلهم وإخفائهم تمهيدا لترحيلهم إلى إسرائيل، ولا علاقة السلطات السودانية بالعملية كلها، وكيف تدخل الزوارق الإسرائيلية المياه الإقليمية السودانية دون أن تلفت نظر السلطات، ودون أن يوضح الفيلم التعاون الرسمي بين السودان والموساد، وهو ما يمكن أن يكون كفيلا بهدم فكرة التضحية والمخاطرة والبطولة التي يروج لها الفيلم من الأساس! وتعتمد الحبكة على “البطل الفردي” أو “الشجيع” التقليدي، أي ضابط المخابرات الإسرائيلية “الموساد” آري ليفنسون (كريس إيفانز) وهو شاب أبيض وسيم طويل مفتول العضلات منسدل الشعر، هو الذي يأخذ على عاتقه مهمة إنقاذ إخوانه “يهود الفلاشا الإثيوبيين”. نراه في المشهد الأول يقوم بحركة استعراضية مقتبسة من أفلام الماضي البدائية الساذجة، عندما ينقذ طفلا إثيوبيا يطارده الجنود في غابة قبل ثوان من إصابته إصابة مباشرة برصاص الجنود الذين يريدون أن يحولوا بينه وبين الفرار على متن شاحنة استأجرها ويقودها بطلنا هذا! يذكرنا “آري” بآري بن كنعان أو بول نيومان، بطل فيلم “الخروج” (1960) الذي يقوم بإنقاذ 600 من أقرانه المهاجرين اليهود وإدخالهم إلى فلسطين. وهو سيتمكن بعد أن ينتهي من المشهد الأول قبل نزول عناوين الفيلم، من إقناع رؤسائه في الموساد بالقيام بعملية أكبر وأكثر تنظيما، وستوفّر له الموساد كل الإمكانيات العلمية والتكنولوجية والمالية والبشرية، وتوافق على أن يستعين بكل من يرغب. ولا بد أن يكونوا في الحقيقة عملاء سابقين، يقوم هو بتجنيدهم ومحاولة إقناعهم بالعودة إلى المخاطرة وأجواء الإثارة بعد أن يكونوا قد تقاعدوا، تأثرا بالثيمة التي انتقلت إلى أفلام عديدة من “الساموراي السبعة” لكيروساوا. أول هؤلاء الشقراء الفاتنة هايلي بينيت التي لا نعرف كيف تنتقل من عملها كمضيفة جوية لتلتحق بفريق آري، والثاني أليساندرو نيفولا وهو طبيب جراح تخلى عن الجراحة ويمارس الطب العام حاليا في عيادة خاصة، ونستطيع أن نرى آثار حرق في يديه وبتر بعض أصابعه في عملية سابقة مع آري. وهو يرفض بشدة الانضمام إلى زميله السابق. ورغم ذلك نراه عضوا أساسيا في الفريق، مع استمرار المشاحنات بينه وبين آري قائد المجموعة الذي يرى أنه يتّخذ قرارات فيها قدر كبير من الحماقة. صورة الآخرالمهم أن آري سيقوم باستئجار فندق سياحي مهجور على ساحل البحر الأحمر في السودان بعد أن يدفع رشوة ضخمة لقائد عسكري سوداني في الخرطوم، لكي يقوم آري وزملاؤه، سرا بنقل أعداد من يهود الفلاشا من مخيمات اللاجئين في منطقة قريبة تخضع لحراسة فصيلة من الجيش السوداني يقودها “عبدالأحمد” (كريس شوك)، وهو ضابط سوداني سادي لا يتورّع عن قطع الرؤوس وممارسة القتل الجماعي والتلذّذ بتعذيب ضحاياه والتحرّش بالنساء كصورة نمطية للآخر (العربي المسلم). وعبدالأحمد يضع عينيه طوال الوقت على آري وجماعته، يتشكّك في ما يقومون به ويحاول عرقلتهم، فهو يحصل على مقابل مالي عن كل رأس من اللاجئين في المخيمات من الأمم المتحدة، ولكنه يجد أن عددهم ينقص يوما بعد يوم. وهو شخصية مختلقة لإضفاء الإثارة على عملية تمت أصلا دون مخاطرة أو بطولة عن طريق التعاون مع السلطات السودانية والمخابرات العسكرية وقبض الرئيس جعفر النميري ورجاله الثمن كما كشفت الكتب التي صدرت عن عملاء سابقين للموساد بعد ذلك، بل ونشرت صورته الشهيرة مع أرييل شارون الذي كان وزيرا للدفاع في حكومة مناخيم بيغين في ذلك الوقت. وجهل صناع الفيلم بالثقافة العربية وبالسودان وباللهجة السودانية واضح في المشاهد التي يفترض أن تدور في السودان، والمضحك أيضا أن الممثل كريس تشاك الذي يقوم بدور عبدالأحمد، ينطق بصعوبة شديدة عبارات ركيكة تدرّب عليها بلكنة أجنبية بالعربية الفصحى، تبدو مترجمة ترجمة رديئة عن النص الإنكليزي. ويتردّد في الفيلم في العديد من المرات التحذير من المخاطر الكامنة في العمل داخل “بلد مسلم” وإرسال عميلة (امرأة) إلى بلد مسلم، كما يحذّر رئيس الموساد! ومن طرائف الفيلم أن إعلانا عن الفندق السياحي الذي تتّخذه المجموعة واجهة وهمية، يسترعي انتباه جماعة من السياح الألمان فيأتون فجأة للإقامة وممارسة الغطس، ممّا يفاجئ عملاء الموساد ويضطرهم إلى القيام بأدوار العاملين في الفندق دون أن نعرف كيف سيدبّرون الأمر، وكيف سيقومون بمهام لم يتدربوا عليها أصلا، وحتى قبل نهاية الفيلم بعشرين دقيقة فقط لا نعرف كيف يدبّرون الطعام لهذا الفوج السياحي أو الأفواج التي تعاقبت بعده كما نرى من خلال الفوتومونتاج. لكن كل شيء في هذا النوع من الأفلام يمكن ابتلاعه، بما في ذلك جعل الممثلة الأميركية الشقراء هيلي بنيت، التي تبدو بجسدها النحيل أقرب إلى عارضة أزياء هشة، عميلة موساد، تتمتّع بالقوة البدنية الخارقة فتتمكّن من خنق جندي سوداني ضخم الجثة دون مقاومة تذكر.عملية موسى أما وصول سياح حقيقيين إلى الفندق فيصبح سببا كافيا لكي يأمر رئيس الموساد بإنهاء المهمة وعودة المجموعة خشية افتضاح أمرهم. لكن الفيلم يقول لنا في النهاية إن عمليات إرسال يهود الفلاشا إلى إسرائيل استمرت إلى أن تم نقلهم جميعا في العملية التي عرفت باسم “عملية موسى”. وبالتالي أنقذتهم إسرائيل، ولكن أنقذتهم من ماذا بالضبط؟ هذا ما لا يكشف عنه الفيلم، فاهتمامه باليهود الإثيوبيين هامشي، فهم مُجرّد حشد من الأجساد المنهكة الممدّدة المستسلمة لقدرها، لا تقترب الكاميرا منهم، ولا تتوقّف أمامهم، معظمهم من النساء والأطفال عديمي الحيلة. هناك شخصية وحيدة لشاب منهم اسمه قبيدي (مايكل وليامز) هو الذي يقوم بتهريب الفلاشا إلى السودان، وهو يردّد عبارات توراتية عامة مقصود أن ترسخ فكرة أن هناك جماعة يهودية ظلت تائهة بعيدا عن “وطنها” لمدة 2700 سنة وأخيرا جاء وقت العودة إلى “الأرض التي وعدنا بها الرب”! ويصوّر الفيلم دور السفير الأميركي في الخرطوم كدور هامشي تماما. صحيح أنه هو الذي يرسل في النهاية طائرة ضخمة لشحن 400 من اليهود الإثيوبيين، لكن آري يتجاهله من البداية ويتجنّبه ويرفض إطلاعه على ما يقوم به، حتى قرب النهاية عندما نعرف أنه يدرك جيدا ما يدور هناك، رغم أن الثابت والمعلن هو أن الأميركيين كانوا من البداية وراء فكرة نقل يهود الفلاشا إلى إسرائيل، وهم الذين دبّروا العملية كلها واتفقوا مع السودان على جميع التسهيلات، وتعاونوا منذ اللحظة الأولى مع مجموعة الموساد وقدموا لها الدعم. لكن الفيلم يريد أن ينسب الفضل كله إلى إسرائيل. متاهة الممثلين من ناحية التمثيل لا يضيف الفيلم شيئا إلى الممثل الأميركي كريس إيفانز بل ينتقص منه. وبوجه عام يشعر المرء بالرثاء لمن تورطوا في هذا الفيلم وعلى رأسهم الممثل البريطاني بن كنغسلي الذي يبدو دوره هنا ثانويا وكان يمكن الاستغناء عنه تماما دون أن يفقد الفيلم شيئا، بل ولا نعرف أصلا ماذا يفعل هذا الممثل في الفيلم؟ وتبدو هيلي بنيت غريبة على دور راتشيل إلاّ أن المقصود إبراز صورة امرأة جميلة مثيرة وسط مجموعة الرجال، تؤدي مشهدا أو اثنين لكنها تصبح مجرد كومبارس في باقي مشاهد الفيلم، لا تلفت نظر أحد حتى من “الطامعين” الرجال في السودان، حسب قاموس الفيلم الأميركي. أما الأدوار الثانوية الأخرى باستثناء شخصية الطبيب، فهي مجرد استكمال للديكور! ولا يخدم فيلم “منتجع البحر الأحمر للغطس” هدفا ما، فلو كان الهدف هو الدعاية فالضعف والركاكة لا يصنعان دعاية جيدة، وإن كان الهدف تذكير الجمهور بموضوع الفلاشا وما قدّمته لهم إسرائيل فالمتفرج الشاب الذي لا يعرف شيئا عن الموضوع سيصبح بعد مشاهدته، أكثر جهلا، وربما يتساءل أيضا: ولماذا كانت كل هذه المتاعب طالما انتهى الأمر بتعذيب يهود الفلاشا واضطهادهم وقتلهم في شوارع تل أبيب؟ والمؤكد أخيرا، أن المخرج جدعون راف ليس سبيلبرغ.
مشاركة :