لدى تركيا أجندة سياسية عريضة للغاية على الساحة السياسة الدولية. كما أن علاقاتها مع اثنتين من أقوى دول العالم، الولايات المتحدة وروسيا، تتأرجح باستمرار بين توتر ومساومات. وهكذا هو حالها مع الاتحاد الأوروبي أيضا. غير أنه من غير الواضح على الإطلاق ما هو الشيء الخفيّ الذي لا يمكن مشاركته من خبايا تلك العلاقات. لا شكّ أن الأزمة الأبرز تتجسد في مسألة التوازنات داخل سوريا. أما الأزمة مع الاتحاد الأوروبي فيبدو أنها خرجت من كونها ناتجة عن تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي. وفضلا عن ذلك فإن لتركيا مشكلات مع دول الجوار، أرمينيا وإيران والعراق وسوريا وإسرائيل وقبرص واليونان. ومن المثير في ذات الوقت أيضا أنّ تركيا تتمتع بصداقات أحيانا مع هذه الدول، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التوتر. فالأمر يشبه حقيقة وضع الأطفال الذين يلعبون في الشارع حينما يتخاصمون مع بعضهم البعض ثم يتصالحون ثانية. لكن لا يوجد في كل هذه المشاحنات حالات خطيرة تستدعي الأهمية، كما أنه لا يوجد ما يدعو للقلق كما يروّج له نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، ويصنّف هذه الخلافات على أنها “مسألة وجود” بالنسبة إلى دولته. أما المشكلات والأزمات الأخرى، فلا تظهر أي نوع من أنواع العجلة. فعلى سبيل المثال الخلافات القائمة بين تركيا واليونان في بحر إيجة، وكذلك التوتر بينها وبين أرمينيا، مشكلات يمكنها الانتظار لفترة أخرى، لاسيما وأنها مشكلات قائمة منذ عشرات السنين. بالنسبة إلى مسألة موارد الطاقة والمنطقة الاقتصادية الحصرية في شرق المتوسط، فأمر مختلف. فالموضوع يعتبر بحق “مسألة وجود” لأنه لو كانت هناك موارد طاقة ثرية بالمنطقة، فإن من سيملكها سيربح الكثير والكثير، فيما سيخسر كثيرا من يعجز عن الوصول إلى تلك الموارد. ولا ننسى أن غالبية الحروب قد اندلعت بسبب هذه النوعية من الموارد الطبيعية التي تعوّل عليها كثير من الدول كسبب من أسباب تقدّمها ورقيّها. كما أن الموضوع يعتبر ملحّا طارئا ولا يمكن أن ينتظر على الإطلاق، وذلك لأن عمليات التنقيب بدأت بالفعل داخل المنطقة الاقتصادية الحصرية لقبرص. وإذا لم تكن هناك ردة فعل حيال عمليات التنقيب هذه فإن هذه المنطقة الاقتصادية ستعتبر معترف بها لمن يقومون بالتنقيب فيها. فضلا عن أن هناك الكثير من الدول التي لها الحق في تقاسم هذه الموارد. على الجانب الآخر نجد إسرائيل ومصر واليونان وقبرص، تعقد بين الحين والآخر اجتماعات مع ممثلي الولايات المتحدة في منطقة موارد الطاقة هذه. كما أن الشركات المشاركة في عمليات التنقيب لها علاقة بدول قوية كفرنسا وإيطاليا. أما تركيا فظهرت في هذه المنطقة كـ”طرف مضاد” لهذه القوى التي نتحدث عنها. أي أن عزلتها على الساحة الدولية تتجلّى في أبرز صورها. كما أنها أيضا تصرّ على حماية سفنها الحربية التي تنقّب شرق المتوسط. وعلى الطرف الآخر نجد أيضا أن القوى الأخرى تُبقي على سفنها الحربية أيضا في نفس الأرجاء. ولا شك أن الأزمة هي في الأساس أزمة قانونية. فكل طرف من الأطراف المعنية يزعم أنه يقوم بعمليات التنقيب داخل منطقته الاقتصادية الحصرية بموجب قانون البحار الدولي (UDH). أي أن كل طرف يتحدث عن هذا القانون وهو يدافع عن حقوقه في هذه المنطقة. وبالتالي فإن حديث هذه الأطراف عن قانون البحار الدولي، يعتبر في حقيقة الأمر نهجا يبعث على الأمل. لأن هذا يعني أن الأطراف جميعها تتفق على قيمة سياسية مشتركة، ألا وهو: قانون البحار الدولي. أي أن هذا المرجع المشترك سيكون هو وسيلة الحل، وهذا أمر واضح. ومن ثم سيتم اعتماد نص هذا القانون وتطبيقه لحلّ هذه الأزمة الماثلة أمامنا. لكن يبقى هذا الكلام نظريا؛ وعمليا الأمر مختلف تماما. وذلك لأنه بموجب نص قانون البحار الدولي، فإنه في حال وجود خلافات يتعيّن على الأطراف المعنية الجلوس وجها لوجه على طاولة المفاوضات. وبالتالي فإنّ هذا أمر محال الحدوث حاليا على اعتبار أن تركيا لا تعترف بقبرص كدولة. وهذا يعني أن قانون البحار الدولي لا يمكن تطبيق بنوده بخصوص هذه النقطة. وحتى إن تم تجاوز مشكلة المفاوضات هذه، وقبلنا بأن أزمة جزيرة قبرص قد تم حلها نتيجة معجزة ما، سنجد على الجانب الآخر أن سقف مساومات تركيا مرتفع للغاية. فضلا عن أنها تعتبر قبرص جزيرة، وأنّ الجُزر ليست لها مناطق اقتصادية حصرية (كما هو الحال بالنسبة إلى جزيرة ميس اليونانية). فيما على الجانب الآخر ترى قبرص نفسها دولة وليست جزيرة. ومن ثم فإنه من المستحيل انخراط الطرفين في أيّ مفاوضات في ظل هذه الظروف. ووفق قانون البحار الدولي، فإنه في حال عدم توصل الأطراف المعنية إلى أي اتفاق، يتم اللجوء إلى القضاء لحل الخلافات القائمة. وهذه خطوة هي الأصعب، بل تعتبر مستحيلة تقريبا. لأن هناك دولة قبرصية غير معترف بها من قبل تركيا، وجزيرة شمال قبرص المعترف بها كدولة من قبل تركيا لكن لا وجود لشرعيتها على الساحة الدولية، فضلا عن أن تركيا لن تسعى إلى حلّ القضاء لأنها تعتبر نفسها ذات ميزة في ميزان القوى. فالأمر أشبه ما يكون بحلقة مفرغة. لكن ماذا تبقّى؟ هل سيتم الاتجاه لتجميد الوضع على ما هو عليه لفترة طويلة غير بسبب هذا التوتر؟ أم أن حربا ما ستندلع وتؤدي لتغيير ميزان القوى؟ ومن هذا كله نفهم يقينا أن سباق موارد الطاقة شرق المتوسط يعتبر واحدا من أكبر المشكلات التي تعاني منها هذه المنطقة، بل هي أسوأها وأكثرها واقعية وإلحاحا. وأعتقد أن من يرون أو يدركون أهمية هذه المشكلة يتصرفون وهم يترددون في الكشف عن وجهات نظرهم في هذا الموضوع. حتى أن المقالات التي تتناول هذا الموضوع الشائك هي قليلة للغاية. ومن المؤكد أنه عندما يتعلق الأمر بالأزمات القومية، فإنّ التعليقات عليها تكون ذات لونين إما أبيض وإما أسود فقط، إذ أن كل طرف يتناول في ما يقول وجهة النظر القومية أو الرسمية للبلد الذي ينتمي إليه حتى ولو كانت وجهة النظر هذه خاطئة. ومن الطبيعي أن يدافع كل طرف عن الحقيقة التي يسوقها.
مشاركة :