بالمتابعة الدقيقة المنصفة لتاريخ النظام الحاكم الحالي في إيران، على امتداد أربعة عقود، نجد ما يصعب حصره من جرائم يرقى بعضها إلى مستوى جرائم حرب حقيقية، ولكن المجتمع الدولي لم يعاقبه عليها، بل إن دولا كبرى تدعي محاربة الإرهاب ألقت رحلها في أحضانه، وتعاملت معه بانتهازية وطمعا بما لديه من أموال. وهذا هو السر وراء إصابته بجنون العظمة وغرور القوة والجبروت، فقد أصبح معتقدا بأنه، بالجريمة أو بالتهديد بها، يحقق من أهدافه العنصرية ما لا يمكنه تحقيقه بالسلم والتعقل والاعتدال، وباحترام القوانين الدولية وما يسمى بحقوق الإنسان. فلم تسلم مدينة أو قرية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن والسعودية والبحرين ومصر والمغرب والسودان، ولا في بعض دول شرق آسيا وأوروبا وأميركا الوسطى والجنوبية، من شرور حرسه الثوري مباشرة، أو بالواسطة بتكليف ميليشياته الخارجية وخلاياه النائمة التي يحركها عندما تقضي حاجته السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية بذلك. ويمكن تشخيص قوة النظام بمصدرين اثنين، الأول هو السلاح، سواء الذي ورثه من نظام الشاه، أو ما حصل عليه من كوريا الشمالية وروسيا والصين، وما تم تصنيعه محليا. والثاني يتمثل بالأحزاب والمنظمات والميليشيات التي تمكن من تشكيلها وتسليحها في الدول المجاورة، وكذلك بالخلايا النائمة التي تمكن من زراعتها في الخارج، ليحركها بين الحين والآخر، حسب حاجته ووفق ما تحكم به الظروف. ورغم أن قادة النظام، وأولُهم المرشد الأعلى علي خامنئي، لم يترددوا عن المجاهرة بعائدية تلك المنظمات والأحزاب والميليشيات لحرسهم الثوري، وبالتحديد لفيلق القدس الذي يقوده قاسم سليماني، ولم يكفوا عن المفاخرة بإرهابها وقدرتها على القتل والاغتيال والتخريب، مهددين بها خصومهم وأعداءهم الكثيرين، إلا أنهم دأبوا، في أكثر الحالات، على ترتيب جرائم يرتكبها وكلاؤهم أولئك، ليسهل عليهم إنكار علاقتهم بها. ولكن العالم كله يعرف أنهم وراءها. إلا أن هذا الواقع المر الذي عاش عليه النظام الإيراني أربعين سنة بدأ يتبدل رويدا رويدا مع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب واعتماده سياسة المجابهة والمقارعة وفرضه الحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري عليه. ويمكن تشخيص مأزق النظام الحالي بأمرين، الأول أن سلاحه التقليدي قد فقد فاعليته واقعيا، وأصبح أقرب ما يكون بلا سلاح بفعل البوارج وحاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات والأقمار الصناعية التي تحاصره وتمنعه ليس من استخدام ذلك السلاح، بل حتى من التهديد به، كما كان يفعل في المنطقة قبل ذلك الحصار. أما الثاني فإن أجنحته المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن لم تعد قادرة على فعل شيء ذي قيمة عسكرية حقيقية لنصرة النظام، مع تفاقم أزمتها التمويلية والتسليحية، وكثافة الهجمات المتلاحقة التي تستهدف معسكراتها ومخازن سلاحها، ومع المراقبة الدقيقة لكل عناصرها من قبل عشرات أجهزة المخابرات العالمية والعربية، على مدار الساعة. أما خلايا النظام النائمة فإن عملياتِ تفكيكها، واحدةً بعد أخرى، جارية على قدم وساق، حتى أصبح السفر والتنقل بين المطارات العربية والعالمية من أصعب الأمور على أي واحد يُشتبه بأنه من أتباع النظام الإيراني. ولو تأملنا معاناة حزب الله اللبناني في سوريا والإغارات المستمرة على مواقعه وعمليات تدمير مخازن سلاحه، واضطراره لسحب “مجاهديه” من كثير من مواقعه السابقة في سوريا، مع أزمته المالية الخانقة، وإصرار الولايات المتحدة وحلفائها على تقزيمه حتى في عقر داره في لبنان، لأدركنا أنه أصبح بلا أسنان ولا أنياب، ولا يملك سوى جعجعة حسن نصرالله التي لا تسمن ولا تغني من جوع. والحال نفسه في العراق. فإن ميليشيات إيران العراقية، رغم أنها صاحبة القرار الحقيقية والمهيمنة على الحكومة والبرلمان فإنها لم تستطع أن تقدم على تنفيذ أيٍ من تهديداتها الفارغة بمهاجمة معسكرات أميركا أو سفارتها أو أي من مصالحها في العراق والمنطقة. وذلك لأنها أصبحت على علم مؤكد بأن أي حماقة ترتكبها ضد أي كيان لأميركا أو أحد حلفائها تعني نهايتها الحقيقية، خصوصا وأن الشعب العراقي يتربص بها الدوائر ويكرهها ويكره الأرض التي يمشي عليها أفراد الحشد الشعبي أو قادته الفاسدين. ولعل ما تعرض له مخزن صواريخ النظام الإيراني في بغداد، مؤخرا، إشارة إلى أن زمن عنجهية النظام الإيراني، وإرهابه، وتهديدات جيوشه، وعنتريات ميليشياته، قد مضى وانقضى. وحين تجرأ معمم من قادة ميليشيات الحشد وتطاول على الجيش العراقي هب العراقيون، بشمم وإباء، لدعم الجيش وللتعبير عن احتقارهم واستنكارهم لهذه الزعانف الطارئة التي ثبتت عمالتها لإيران وخيانتها لوطنها العراق. والشيء نفسه حاصل لجماعة الحوثيين، فهم رغم كل ما أمدهم به النظام الإيراني من سلاح وصواريخ وألغام لم ولن يتمكنوا من إلحاق ضرر حقيقي بالسعودية وحلفائها. بعبارة أوضح. إن جميع هذه الميليشيات، في العراق ولبنان وسوريا واليمن، أصبحت لا تملك سوى الجعجعة والثرثرة، كذبابٍ محبوس في قنينة من زجاج، يراها الآخرون ولكن لا يسمعون سوى زنّها المزعج الكريه. وهذا هو منطق التاريخ الذي لم يتبدل ولن يتبدل إلى أبد الآبدين.
مشاركة :