القس سهيل سعود يكتب القديسة مريم العذراء

  • 8/18/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تتشكّل نظرة الإنجيليين الى مريم العذراء من عاملين أساسيين: العامل الكتابي، والعامل التاريخي. بالنسبة للعامل الكتابي: فالإنجيليون وانطلاقا من مبدأ الكتاب المقدس وحده، هو المصدر الوحيد للعقيدة والحياة، يتمسكون بما يورده الكتاب المقدس عن مريم العذراء. أما العامل التاريخي، فهو زمن الإصلاح الإنجيلى فى القرن السادس عشر، إذ احتج المصلحون الإنجيليون على المبالغة فى النظرة الى مريم، التى أخرجتها عن الإطار الطبيعى الذى يعلنه الإنجيل، وحجبت مريم العذراء الأنظار عن الرب يسوع المسيح، رئيس إيماننا ومكمله. بالنسبة للعامل التاريخي، فإنه فى زَمَن الإصلاح الإنْجيلى فى القرن السادس عشر، احْتَجَّ المُصلِحون الإنْجيليون على الكثير مِن المُمارسات التى كانَت شائِعَة فى الكنيسة آنَذاك فى أوروبا، ومِنْها المُمارَسة التى ارْتَبَطَت بمَرْيم العذراء التى سادَها الكثير مِن المُبالَغة والتَّمجيد إلى حَدِّ العبادة والتَّألِيْه. وقَدْ رأى المُصلِحون الإنْجيليون أنَّ تلك المُمارسات خَرَجَت عَن إطار تعليم الكتاب المقدس وسِجِلّ الكنيسة الأولى فى سِفْر أعمال الرسل. وأخْرَجَت مريم عن إطارها الكتابى وأُطْلِقَ عَلَيْها الكثير مِن الألقاب المُخْتلفة التى لَمْ يُطْلِقها الكتاب المقدس عليها. فسُمِّيَت «شَريكةٌ فى الخَلاص»، «أمّ الرَّحْمَة»، «شَفيعَة بَيْنَ السَّماء والأرض»، «مُوزِّعَة النِّعَم»، وغيرها مِن الألقاب التى لا يجوز أنْ تُطْلَقَ إلاَّ على شَخْصِ الرَّب يسوع المسيح وَحْدَه. فتحوَّل تَمْجيدها عقيدة مَرْيمِيَّة. لهذا مُدِحَت ومُجِّدَت، وأُقِيْمَت لها الصَّلوات والقَداديس والاحْتفالات. فى هذا الجَوّ مِن المُبالَغَة فى تَمْجيد مريم العذراء، بَرَز المُصلِحون الإنْجيليون فى القَرْن السادس عشر، فنَقَدوا تِلْك المُمارسات المَرْيمية المُبالَغ فيها، التى أخْرَجَتْها عن كَوْنِها مَخْلوقًا لتُنافِس شَخْص المسيح فى العِبادة والشَّفاعة والوَساطَة، بل وتَحْجُبُه عَن الأنْظار وتَحُلّ مَحَلَّهُ فى بَعض الأحيان. وقَدْ كانَت ردَّة فِعْل المُصلِح مارتن لوثر، هى أن تُلْغَى كُلّ مُمارسةٍ لها علاقة بمريم العذراء، حتى لا يَبْقى المسيح الرَّب مَحْجوبًا عن أنْظار المؤمنين. وهكذا رَفَع المُصلِحون شعار العودة فى العبادة والعقيدة، إلى الجذور الأولى، إلى كنيسة الرسل التى شدَّدَت على مركزية الرَّب يسوع المسيح فى كلّ الحياة، كَيْما تستَعِيد مريم العذراء مكانَتها ودَورها الطَّبيعى الإنْجيلى الذى يُعْلِنه ويعلِّمه الكتاب المقدس.الا أنه بالرغم من انتقاد المصلحين لتلك الممارسات المبالغة التى سادت حول مريم آنذاك، فقد حافظوا على النظرة الكتابية فى تكريم مريم العذراء فى روحانيتهم ووعظهم وتأملاتهم. فالمصلحون الرئيسيون الثلاثة مارتن لوثر،جان كلفن، وأولترخ زوينكلي، كرّم كل بدوره مريم العذراء كما يسمح الإنجيل بتكريمها. فى تفسير قول الملاك لمريم:«سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِى النِّسَاءِ». ومديح اليصابات لمريم:«مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِى النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِى هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّى إِلَيَّ؟ (لوقا5: 28 و42 و43) قال المصلح جان كلفن: « لا نستطيع أن نفرح بالنعمة المعطاة لنا فى المسيح، دون أن نتذكر فى الوقت عينه سمو الإكرام الذى منحه الله لمريم حين اختارها لتكون أما لابنه الوحيد وحين كلّمها الملاك بالكلام الذى قالته لها اليصابات». أيضا أضاف كلفن: «لا يمكن أن ننكر بأن الله باختيار مريم لتكون أم ابنها، قد منحها الشرف الأعظم. أما مارتن لوثر فقا إن «اليصابات استخدمت كلمات رائعة لم تسمعها امرأة فى الكون، فمريم هى أكثر من إمبراطورة أو ملكة، هى أعظم من حواء وسارة... ولا نستطيع تكريمها كفاية، فتكريمها محفور فى أعماق قلب الإنسان. وعلى المسيحى أن يدرك حقيقتها ويحترمها «أما المصلح زوينكلى فقال»: كلما أحببنا واحترمنا المسيح أكثر، فإننا نقدّر ونحترم مريم العذراء أكثر فأكثر، لأنها حملت لنا المخلص فى أحشائها». إن نظرة الإنجيليين إلى مريم العذراء انسجمت مع مضمون الكتاب المقدس، فهى لم تحجب المسيح، ولم تقلل من سيادته المطلقة على الحياة، بل كما قالت للخدام فى عرس قانا «مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا 2: 5). وهنا لا بد من التذكير أن جميع المصلحين الإنجيلين الرئيسيين، قبلوا بالتعبير الكريستولوجى اليونانى (ثيوتوكوس) والذى يعنى «والدة الإله « أو «حاملة الاله» الذى أقرّ فى مجمع أفسس سنة 431، ثم تثبّت فى مجمع خلقدونية سنة 451، وقد أقرّ آباء الكنيسة هذا التعبير، لا لوصف شخص مريم العذراء، وإنما للتشديد على الطبيعة الإنسانية للإله المتجسّد يسوع المسيح والتى هى متّحدة مع طبيعته الإلهية وإنما متمايزة عنها. وبالتالي، فالمسيح ذو طبيعة إنسانية، لأنه من والدة بشرية هى مريم العذراء، وذو طبيعة إلهية كونه ابن الله الأزلي. لقد أوضح اللاهوتى الإنجيلى المعاصر كارل بارت، هذا التعبير بقوله: «من خلال مريم العذراء، ينتمى المسيح الى الجنس البشري. ومن خلال المسيح فإن مريم هى والدة الإله». كما أوضح كارل بارت «يجب على الإنجيليين ألا يقلقوا من استخدام تعبير «والدة الإله» لمريم العذراء، ولكن شرط أن يفهم هذا التعبير بمعناه الحقيقي، أى للتأكيد على طبيعتى الرب يسوع الإلهية والإنسانية، ولكن إذا ما أسيء فهم هذا التعبير، فالأفضل ألا يستخدم». وفى تعليقه على بشارة الملاك جبرائيل لمريم، أيضا قال كارل بارت: «عندما بشّر الملاك جبرائيل مريم العذراء، كانت هناك كلمة مدح وكلمة تحذير. فقد مدح الملاك أهمية اختيار نعمة الله لها، مما يدل على أنها أعظم من كل الشخصيات أعظم، من إبراهيم وموسى وداود ويوحنا المعمدان، فهى دون أى شك، الشخصية المميزة فى الكتاب المقدس. لكن هناك أيضا كلمة تحذير، لأننا سنسيء فهم حقيقة ودور مريم إذا ما بقينا فى المدح. وكلمة التحذير لنا، هى أن نتذكّر أن مريم احتاجت لنعمة الله. فالله يأتى إليها ليكون معها ويجعلها مميزة. وبالتالي، فميزتها ليست من ذاتها، بل لأن الله أنعم عليها وميّزها وباركها، لأنها سمعت صوته وقبلت دعوته لتكون أداة لتجسد ابنه يسوع.يلتقى الإنجيليون مع الكنائس الأخرى الشقيقة فى بعض الأمور التى ذكرناها، حول مريم العذراء، ويختلفون معهم فى عقيدتين أساسيتين، هما:(1) عقيدة الحَبَل بِلا دَنَس، التى أعْلَنها سنة 1854 م البابا «بيوس» التاسع. وتفيد بأنَّ العذراء حُفْظَت مِن تلوُّث الخطيئة الأصلية مُنْذُ اللحظة الأولى للحَبَلِ بِها، بواسطة امْتياز فريد مِن الله. وهى عقيدة موحاة بِها مِن الله، كما أعلن البابا. إلاَّ أنَّ الإنْجيليِّين، وبما أن الكتاب المقدس الذى له السُّلطة العُلْيا، والمَصْدر الوحيد للعقيدة، وبما أنَّ هذه العقيدة لا تَذْكُرها الأناجيل، فهُم لا يقبلون بها.(2) عقيدة انْتِقال مريم العَذراء إلى السَّماء بالجَسَد والنَّفْس، والتى أعلنها البابا «بيوس» الثانى عام 1950م. وتفيد بأنَّ العذراء وبَعْد حياتها على الأرض انْتَقَلَت بالجَسَد والنَّفْس إلى مَجْد السَّماء. إلاَّ أنَّ موقِف الإنْجيليِّين مِن هذه العقيدة هو الموقف نَفْسه، مِن عقيدة الحَبَل بِلا دَنَس، لأنّ لا أساس لها فى الكتاب المقدس.يبرز فى العالم المسيحى الإنجيلي،ابتداء من النصف الثانى من القرن العشرين وحتى اليوم اهتمامًا جديدًا لإعادة تقييم النظرة الى مريم العذراء على ضوء الصورة الحقيقية الاصلاحية والكتابية. يقول تيموثى جورج عميد كلية إنجيلية: «أنا أرجو من بروتستانت اليوم، أن يعودوا فى التاريخ إلى المصلحين الإنجيليين، ليستعيدوا الصورة الحقيقية والإصلاحية والكتابية لمريم العذراء.بعد سنين طويلة من الصمت الإنجيلى حول مريم،صدرت كتب ودراسات ومقالات جديدة كتبها إنجيليون لإعادة النظر الى العذراء مريم،على ضوء التاريخ المصلح والكتاب المقدس معًا. مما لا شك فيه، يعتبر الإنجيليون، أن القديسة مريم العذراء، هى مثال لكل إنسان مسيحي، يريد أن يكون تلميذا حقيقيا للمسيح. فهى فى عرس قانا قالت للخدّام «كل ما يقوله لكم المسيح افعلوه». ومن الأقوال الجميلة التى سمعتها عن مريم، والتى تدعونا للتمثل بإيمانها وطاعتها وقداستها، أن الرب يسوع المسيح لم يولد فقط من رحم مريم العذراء، لكنه ولد أيضا من إيمانها وطاعتها وقداستها. فدعونا نتعلم من القديسة مريم العذراء الإيمان، بالخضوع لإرادة الله، نتعلم من مريم أن نقدّم المسيح للعالم، فى صلواتنا وأفكارنا وتصرفاتنا.

مشاركة :