قال الصديق المتفلسف: لقد قرأت همستك الأخيرة وشعرت بأنها مخيفة مزعجة؛ لأنها تحمل معها خيبة المشاعر والفشل والتسليم بفقد الأمل، وليس هنالك ما هو أسوأ من ذلك مطلقا. قلت: يا صديقي العزيز، إن الأسوأ من ذلك يا صديقي هو الألم، لأن الموت والعدم أهون من الألم والفقد وخيبة المشاعر، والأسوأ من كل ذلك هو موت الأحلام، أو العيش من دون حلم! قال: لقد سبق لنا أن تعلمنا أنه لا يأس مع الحياة، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! كما تعلمناه من لامية العرب للطغرائي التي حاكى بها لامية العربي للشنفرى: أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل قلت: هذا كلام حكيم جدا، مصاغ صياغة بلاغية، وهو يعكس حالة ذهنية إيجابية، ولكني أرى أن بعض الحياة تساوي العدم، بل قد تكون أسوأ منه، مثل الحياة من دون حلم، ومثلما قال بطل مسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم (ميشلينا): من فقد حلمه مات، والحياة من دون حلم غياب مع الحضور وعدم داهم. سألني ساخرًا: وكيف توصل بطل مسرحية توفيق الحكيم إلى هذه النتيجة الغريبة؟ قلت: محور مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم يدور حول صراع الإنسان مع الزمن. ويتمثل في أهل الكهف الذين يبعثون إلى الحياة بعد نوم يستغرق أكثر من ثلاثة قرون، ليجدوا أنفسهم في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه من قبل، وكانت لهم فيه علاقات وصلات اجتماعية وإنسانية تربطهم بالناس وبالحياة، تلك العلاقات والصلات التي كان كل منهم يرى فيها معنى حياته وجوهرها لأنها تحمل أحلاما كان يعيش من أجلها ويجاهد لتحقيقها، ولذلك عندما استيقظوا من سباتهم مرة أخرى وسعى كل منهم ليعيش مجددا في المدنية التي احتضنت أعمالهم واحلامهم، سرعان ما أدركوا بأن هذه العلاقات قد انقضت بمضي الزمن، الأمر الذي حملهم على الإحساس بالوحدة والغربة في عالم جديد لا تربطهم به صلة، ووجدوا ان احلامهم قد ماتت بانقضاء زمنهم والمجتمع الذي تربطهم به صلات؛ لأن مياه النهر قد جرت بعيدا عنها، ولذلك لم يجدوا مناصا من العودة الى الكهف مجددا هربا من هذه الحياة الغريبة، مؤثرين الموت عن حيات لا صلات فيها ولا حلم ليناضلوا من أجل تحقيقه. قال الصديق: لقد قرأت شيئا من هذا القبيل للفيلسوف الألماني الأكثر شهرة هايدجر، فيما معناه: أن العلاقة بين الكينونة والزمان علاقة أبدية، فكلاهما يحيل إلى الآخر باستمرار، وآية ذلك تتجلى في أن أهم شيء يمتلكه الإنسان في هذا الوجود هو الوجود نفسه (أي فسحة الحياة) ذاتها، ولكنه وجود معرض للفناء في كل لحظة باعتبار أن أسمى إمكانية حقيقية للكائن هي إمكانية الموت، ولأن الكائن كائن موجود أصلا ليموت، إلا أن الموت لم يتحقق بعد، فأين هو إذن؟ يتساءل هايدجر، إنه مسجل في ذاكرة الزمان القادم، أي في المستقبل (أي الحلم الذي نعمل على تحقيقه مع إدراكنا العقلي بأنا سنوت بالرغم من ذلك فإننا نظل نعمل ونحيا، طالما أننا نحلم). وهكذا فإن الزمن هو حركة مستمرة من دون انقطاع نحو المستقبل، ولكن هذا المستقبل نفسه ينتهي بالضرورة بالموت أو العدم، والموت في النهاية هو التجلي المطلق لهذا العدم الذي ينتظرنا في نهاية الرحلة. فما أقوى الإنسان وما أعظمه وما أجمله، فهو يكاد يكون الكائن الوحيد الذي يعمل ويكدح ويدرس ويبني ويتحدث يوميا عن المستقبل والاستعداد للمستقبل وتهيئة الأمور لمستقبله ومستقبل أولاده، مع أنه يعلم علم اليقين بأنه سيموت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) سورة الزمر الآية 30. قلت: هذ صحيح، وهذا ما يجعل الانسان (عظيما) ومن أفضل خلق الله كرمه، الله في البحر والبر وحمله الأمانة، ولذلك فهو يعمل ويكدح مع علمه المسبق بأنه ميت لا محالة، ولكني أعتقد أن ما يقوي الانسان ويجعله ينسى أو يتناسى فكرة العدم، هو انه بالرغم من علمه بأنه مائت لا محالة، فهو في ذات الوقت لا يشعر بأنه سيموت، فالنسيان نعمة من نعم الله بفضله ننسى فكرة العدم، وتعجز عن صدنا عن ممارسة فعل البناء والتنمية والعيش نفسه. عثمانية أم تركية؟ سألتها وأنا أجلس في مقعد الطائرة الرخيص: لماذا تغيب اللغة العربية في المناداة المتكررة وفي التعليمات والتنبيهات، مع أن أكثر جمهور الركاب هم من العرب؟ قالت بلغة انجليزية ركيكة، من دون تردد -وكأنها كانت تتوقع السؤال أو كأنما سبق لها الرد عليه عدة مرات-: اللغة الإنجليزية يفهمها الجميع على حد علمي، فلا حاجة إذن إلى استخدام اللغة العربية. قلت: طيب، فإذا كان الأمر كذلك ويمكن أن نسلم به، لماذا يتم الإعلان باللغة التركية، مع انه لا وجود لمن يتكلمها في الطائرة من بين الركاب على ما يبدو، والانجليزية -على حد قولك- يفهمها الجميع؟؟ قالت: لا تضيّع وقتي من فضلك، فتلك مسألة قومية، تعود إلى هوية الطائرة نفسها.! قلت: أحترم وجهة منظرك تماما، ولكن هل تسمحين لي بسؤال أخير: ألست عثمانية؟ قالت من دون تردد، وبغضب زادها جمالا: من قال لك ذلك؟ أنا تركية، مائة في المائة وأتاتورك جدي. وهنا كان عليّ أن أسكت عن الكلام المباح... همس كان للنهر ضفتان وللنخل رائحة الفرح. كان للعرق طعم العشق والتمر. والقمر يكتمل كل مساء. لهفي لم يبق اليوم في القلب غير وجع الصباح. والليل سادر والغضب... السحرة وزناة الليل وسراق الفرح والمجد، تجمعوا على الفرس الأخير وحيدا. لم يبق للنهر ضفتان ولا نخل. لهفي على النخل الوحيد، وعلى النهر يشتاق ضفته الأخرى.
مشاركة :