عندما طلب النحات بيغماليون غير المهتم بالنسوة المحيطات به من فينوس أن تحوّل منحوتته التي أغرم بها إلى امرأة حقيقية، هل كان يدري تماما ماذا يطلب؟ وكيف سيكون التواصل مع المرأة/التمثال التي لم يكن لها تاريخ إلاّ اللحظة التي مُنحت فيها الحياة؟ أشعلت هذه الأسطورة خيال الفنانين ولا زالت إلى الآن. ومن أجمل الأعمال تلك التي أبدعها الفنان جان ليون جيروم ولوحة لبول ديلفو التي يعكس فيها القصة حيث تغرم المرأة بتمثال. وتبقى أجمل اللوحات على الإطلاق عبارة عن أربعة أعمال أبدعها سير إدوارد برن جونز وتسرد رواية حب قصوى بين بيغماليون وغالاتيا وفصول تحوّلها إلى الحياة. يمكننا اعتبار قصة بيغماليون قصة معاصرة جدا من خلال تمعننا في رغبة الإنسان المعاصر في الابتكار والعمل على اختراع كائنات الذكاء الاصطناعي، انطلاقا من رغبة واحدة وإن تعددت أشكالها حتى صعوبة تعدادها والخوض فيها هنا، وهي الرغبة في “السعادة”. سعادة هي مطلقة، إذ تدرج في جدولها لائحة من المعاني تطول ربما إلى ما لا نهاية ومن معانيها بالتأكيد: السعادة في الحب البشري. أمام رغبة “بيغماليونات” في اجتراح الهناء البشري، هل أقيمت تساؤلات حول ماذا لو تحقّق لهم بناء كائن خارق الذكاء أرادوه متمكنا من ذكاء عاطفي ومشاعر تؤهله لأن يكون المرأة المثالية البديلة أو الرجل المثالي البديل؟ ما يتمناه بيغماليونات العصر يفوق ما حقّقوه من صناعة كائنات خارقة الذكاء لاستخدامات جنسية آلية وواهية. ونقصد هنا بالأبعاد العاطفية الإنسانية تلك التي لم تنجُ من محاولات حثيثة لابتكارها ودمجها في كائنات الذكاء الاصطناعي، محاولات إن كانت تدل على أي شيء، للوهلة الأولى، فهي تدل على عمق الفراغ العاطفي والوحدة التي أصبحت بعد الاكتئاب مرض العصر. هل ستنقذ تلك الابتكارات احتضار الحب الإنساني؟ لا بل في ظل ضوء هكذا افتراضات، ماذا بات تعريف الحب في الزمن الذي نعيش فيه؟ وكيف سيتمكّن هؤلاء المبتكرون من أن يملأوا الهوة الفارغة القائمة بين ما نشكّل كبشر من تجارب معيشية وخلافات نفسية وتاريخية وثقافية واجتماعية، وما يمكن أن تقدّمه حسابات إلكترونية صنيعة مزاج وخلفية أصحابها ومعرضة للإخفاق الدراماتيكي الحاسم في أدنى تفصيل في العمليات الحسابية؟ المتحمسون لاختراع كائنات ذات مشاعر هم مدركون، على الأقل حتى الآن، أنه عندما “تعبر” تلك الكائنات عن مشاعرها من فرح وحزن وحب، فهي لا تشعر بها فعلا، بل هي تتصرّف ظاهريا بها حسب عمليات حسابية لقنتها أن تظهر ما لا تشعر به فعلا. ويقول أحد العلماء إن تلك الآلات لن تشعر بمشاعر إنسانية، لأنها لن تملك أجسادا كأجساد البشر. وهنا يلقي هذا العالم الضوء على أثيرية هذا اللغز المتمثل في التيارات غير المحدودة التي تعصف بالأجساد البشرية حتى وهي ساكنة يغلبها النوم. ويأخذنا كلامه إلى كلام المتصوّفين وإيمانهم بأن الكون أجمع هو في خلايا الإنسان المهولة التعقيد. ومن ناحية ثانية أين تجيء مكانة “الروح” من كل هذا؟ وماذا يريد تماما البشر ولا يمكن تحقيقه من ضمن إنسانيتهم، الخلود؟ وكم من قصص روائية سردت كيف ملت الملائكة من الأبدية وتمنت حياة البشر. نذكر هنا فيلما رائعا “أجنحة الرغبة” للمخرج فيم فيندرز (إنتاج 1987)، والذي يسلّط الضوء على فكرة الخلود عبر “تعاسة” الملائكة. وفي هذا السياق نذكر أيضا عالما فرنسيا كان تابعا للمدرسة “الميكانيكية” في الفلسفة والعلم، ثم تحوّل إلى مؤمن بالغيبيات أمام عملية بسيطة جدا في ظاهرها، وهي تقشيره تفاحةً. باختصار وتبسيط شديدين، ذكر أنه في أحد الأيام تأمّل في تفاحة على طاولة أمامه وهي كيان فيزيائي. فأخذ يقشّرها لينفذ إلى “لب” ما يكوّنها، أي حقيقتها، فإذا به يصل إلى بذرتها التي تمكن بسهولة من تحطيمها، ليبقى هو أمام “اللاشيء”. عندئذ توقّف مُدركا أن أصل كل شيء هو “هيولى حيّة” لا يمكن الإمساك بها. نجد الآن ذاتنا في مكان بيغماليون الأصلي، إن كنا مقتنعين بأنه لا سبيل لمعاكسة التطوّر، فعلينا أن نسأل: ماذا نريد تماما من التكنولوجيا المُتسارعة التقدّم؟ وماذا ستكون طبيعة العلاقة التي ستربطنا بتلك الكائنات الذكية؟ علينا أن نواجه أسئلة قد يكون طرحها على ذاته بيغماليون ثم تغاضى عنها، وإلاّ سنساهم بشكل مباشر في جعل الكائنات الذكية ليست شبيهة بنا، بل في تشكيل صورتنا كبشر على مثالها، وليس العكس. وتبقى لوحات الفنان سير إدوارد برن جونز الأربع التي جسّد خلالها قصة بيغماليون هي الأروع، ليس لجماليتها فقط، بل للعناوين الشعرية التي أعطاها لها: “القلب يشتهي”، “اليد تتمنّع”، “الآلهة تُحيي” و“الروح تحصل”. وحبذا لو أضاف الفنان لوحة خامسة عنونها بالمقولة التي اجتاحت الأفلام والروايات واللوحات “حذار ممّا تتمنى لربّما تحقّق”. فقد ننتهي أكثر حزنا وشقاء ممّا كنا عليه قبل أن تتحقّق أحلامنا.
مشاركة :