عن ولادة الناس المتساوين

  • 8/23/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يوجد في مدارس محافظة جدة وحدها أكثر من عشرين شاعراً وروائياً وقاصاً وكاتباً. وأظن أن هناك آخرين في مختلف مناطق المملكة، ومع ذلك لا يعرّف أحدهم نفسه بأنه تربوي، ولا يدرج مهنته (التعليم) في سيرته الذاتية، ولا يصف نفسه بأنه تربوي، ولم يكتب مقالاً واحداً عن تصوره للتعليم. هناك أكاديميون الآن في الجامعات السعودية كانوا معلمين في مراحل التعليم العام، وحين تتحدث مع بعضهم عن ذلك يخفت صوته كما لو أنه لا يريد أن يسمعه أحد. أكثر من هذا يعتبرها مرحلة فائضة من سيرته، ويتحسر على الوقت الذي أمضاه معلماً. وفي مقابل هؤلاء ولمكانة التعليم فإن كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء والمبدعين كتبوا عن التعليم وفيه. عظماء وخالدون لم يترفعوا بأنفسهم فوق أن يكونوا تربويين، عظماء ككانت وروسو. هذان مجرد مثلين لفلاسفة يرون في التعليم مدخلًا إلى تغيير المجتمع. حتى في وجود النقد الذي وجّه إلى المدرسة في كونها تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي، وأن ثقافتها هي ثقافة الطبقة المهيمنة، وعدم وجود مبرر عقلاني في أن تختار المدرسة ثقافة لتعطيها شرعية على حساب أخرى. أقول رغم كل هذا النقد الموجه للمدرسة، واستناداً إلى ما نعرفه من تاريخ المجتمعات المتقدمة فإن التعليم سيظل كما هو في أي تصور لتحديث المجتمع، وأن نقد المدرسة هو اعتراف بأهميتها في غرس البنيات العقلية. إن القول - يقول المفكر إدوارد سعيد - إن شخصاً ما متعلّم أو معلّم هو قول له علاقة بالعقل أولًا وأخيراً، وبالقيم الفكرية والأخلاقية، وبسيرورة البحث والنقاش والحوار مما لا يصادفه الفرد خارج المدرسة، والفكرة هي أن تشكل المدارس والجامعات عقول الشباب والشابات، وأن تعدهم للحياة. هناك عقبتان يجب أن يتجاوزهما تعليمنا. عائقان أساسيان هما تربية الأسرة وتربية المؤسسة التعليمية لأن أولياء الأمور يفكرون في العائلة، بينما تفكر المؤسسة التعليمية في الدولة. فأولئك وهؤلاء ليس هدفهم النهائي الخير الكلي والكمال الذي هُيّئت الإنسانية له، وتملك استعدادات لأجلهما. كتب إيمانويل كانت في مقاله: ما هو التنوير؟ أن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذاتي الذي هو سببه. والقصور هو العجز عن استعمال عقله من دون الاستعانة بآخر. بهذا المعنى فإن التنوير من حيث هو استخدام العقل هو الهدف النهائي للتربية والتعليم . وفي محاضرته في «علم التربية» شدد على أن الإنسان لا يصير إنساناً إلا عبر عملية التربية وهو لا شيء إلا ما تصنعه به التربية؛ فبدلًا من الغريزة أودعت الطبيعة العقل في الإنسان، وقد أتاحت له الطبيعة أن يتدبر أموره بنفسه، لكن لأن كل فرد ملزم بأن يعتمد على الآخر، وهذا بدوره قد تربى في مجتمع إنساني فإن الفرد لم يصل إلى وضع كامل؛ لذلك على كل جيل أن يتقدم خطوة في اتجاه كمال الإنسانية. يجب أن يرعى التعليم الطفل ليس حين يتعلّم؛ إنما أيضاً حتى بعد أن يغادر التعليم، ويصير راشداً. أقصد بالرعاية أن يحول التعليم بينه وبين أن يستخدم عقله استخداماً يضره أو يضر الآخرين مهما تكن عقائدهم أو أعراقهم أو ثقافتهم أو أديانهم. يولد الناس متساويين. هذا حق، ومهمتهم المشتركة أن يكونوا بشراً. وهذا حق أيضاً. ولا يعني التعليم أن يتخرج الرجال والنساء ليعملوا على حساب الحياة التي يعيشونها. ليس المطلوب من التعليم أن يخرّج لسوق العمل كما هي الموضة الآن؛ إنما أن يخرّج إنساناً. كتب جان جاك روسو: الحياة هي التي أريد أن ألقّنه (تلميذي) إياها. وحين يخرج من بين يدي لن يكون قاضياً أو جندياً أو قسيساً، بل سيكون إنساناً قبل كل شيء، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان، وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح، ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه، فسيكون دائماً في وضعه الحق.

مشاركة :