قاسم حداد* * الاستعارات هي الأجنحة الكثيرة التي بواسطتها سيحلق المجاز * شرط الفن الذي يقترحه علينا المبدع هو ما يمنح الشعر حريته الفنية * أحبُّ الكلامَ عن الإخفاقات دائماً * كنتُ مبكراً ممن يشعرون بميلٍ شديدٍ إلى الإيقاع * أعتقد بأن العناية بالشكل هو الموقف الطبيعي للشاعر * لا أزال أشعر بلذةٍ غامضة، في الكتابة وزناً * الشعراء كائنات لغوية سيكون من غير العدل دعوة الشاعر ليقول شهادته على تجربته. خشية أن تكون شهادة مجروحة بالفعل. أذكرُ، عندما دُعيت أول مرة لأتحدث عن تجربتي الشعرية، سَميتُ ذلك (محاولة). وقلتُ إن هناك طرقاً كثيرةً للكلام عن التجربة. هذه المرة اسمحوا لي أن أعيد تلك المحاولة فحسب. 1 يمكنني أن أرى لكم بعض لحظات المنعطفات الأبرز في التجربة وليس في متوالياتها الزمنية. ففي المنعطفات، يُفترض، أن يحدث التحول الفني نوعياَ، وتتاح لنا فرصة الإمساك بالعناصر المكونة للتجربة الشعرية، متحررةً من شروط النجاح والفشل ومن أحكام القيمة المطلقة. في تلك المنعطفات يمكننا الزعم بأنّ ثمةَ محاولاتٍ لإدراك الشعر، والسعي لتمييزه عن سواه. 2 الآن، للحديث عن التجربة، لابد من اختصار المسافة الزمنية. بإشارات لملامح من المسافة الفنية. وإلا كيف يمكن وضع خمسينَ عاماً في خمس دقائق؟ أحبُّ الكلامَ عن الإخفاقات دائماً. ففي اعتقادي أن كل قصيدةٍ هي إخفاقٌ جديدٌ يحققه الشاعرُ في محاولة الخلق وإعادة الخلق. أقول الخلق، لكي أشير إلى طبيعة العمل الفني الذي يسعى إليه الشاعر فيما يستدرك تلك المنسيات المدهشة. 3 هناك بعض الكتب المرتبطة بمراحل التجربة يمكنها أن تكون بمنزلة الاقتراحات لمنعطفات حيوية في مسار التجربة: بين «البشارة» و«خروج رأس الحسين و»الدم الثاني» بدء السجال بين الذاتي والموضوعي في مسألة (الثقافي / السياسي). في «قلب الحب» و«القيامة» (مكتشفات المضمون / الموضوع والشكل في لحظة كتابة الحب وقصيدة النثر) «الجواشن» (لحظة تجاوز تخوم الكتابة والخروج عن القوالب. وآفاق «النص المفتوح») «أخبار مجنون ليلى -الأزرق المستحيل -وجوه -طرفة بن الوردة» (لحظة تقاطع الفنون وتجارب الأعمال المشتركة) 4 أثناء ذلك، كنتُ وصفتُ الشعر بأنه منسيات ليس لكي أُعظّمَ الشاعر، لكن لكي افتح أفقَ الاستدراك الذاتي للإبداعي أمام الشعر. وظني أنَّ الشاعرَ لم يفعل غير هذا طوال التاريخ. 5 عندما انبثقت المحاولات الشعرية المبكرة، كانت بمنزلة الانبثاقات التي تصدرُ في لحظات الوعي النضالي وحلم تغيير العالم. مما جعل تجارب المرحلة الشعرية الأولى هاجساً ممتزجاً بالخطاب السياسي. وبعد الكتاب الأول، فيما كنتُ منهمكاً في العمل، تكشفتْ لي صعوبات الخيارات الصارمة. 6 قبل ذلك، في تاريخ الثقافة العربية القديمة، ثمةَ لحظةٌ تاريخية فاتنة، أحبُّ أن أستحضرها في معرض الحديث عن شعرية الكتابة العربية، فمنذ أن وصفت قريشُ النبيَّ بالشاعر، وبأن القرآنَ ضربٌ من الشعر، في تلك اللحظة ربما تكون السليقة العربية قد أعلنت إمكانية خروجُ الشعر عن القصيدة، وسوف أرى في ذلك الموقف بياناً نقدياً ليس من الحكمة التفريط في منظوره، أو تفادي احتمالاته الثقافية أو التقليل من شأنه المعرفي، وكان يصدر في أوج التجربة الشعرية العربية المبكرة، وخصوصاً بعد أن أصبحت الكتابةُ الشعرية والنثرية شبه مكتملة التأسيس بقواعد سوف تحكم تاريخ الشعر والنثر العربيين لقرون عديدة بعد ذلك. 7 بالنسبة لي، فقد بدأتُ مبكراً وعي الارتباط الجوهري بين التحرر من سلطة الخطاب الآيديولوجي (أي خطاب)، وبين الخروج، نافراً على جاهزية شكل التعبير. لكن كلا الأمرين يستوجبان شرطَ معرفة القواعد بشكلٍ جدي، من أجل كسرها بشكلٍ ممتاز. حتى «سوزان برنار»، التي يستشهد بها العربُ في الكلام عن «قصيدة النثر» كانت قد قالت: إن كل تمردٍ ضد القوانين القائمة لا بد له أن يستبدلَ هذه القوانين بأخرى، لكي لا يقع في «اللاعضوية واللاشكل». 8 لست متطرفاً في الانتصار للشكل، على العكس أعتقد بأن العناية بالشكل هو الموقف الطبيعي للشاعر، فالشعر والإبداع يأتيان بما يقترحه الشاعر لشكل الكتابة. وأخشى أن أكون عاجزاً عن مجاراة ما تقترحه عليّ المخيلة أثناء الكتابة، وهي مخيلة غالباً ما تكون أكثرَ جرأةٍ من جلافة الذهن وميل الإنسان طبيعياً للنوم الصامت لحظة الكتابة، وهو الضرب من النوم خالٍ من المخيلة النشيطة. 9 الشاعر، فيما يثبت قدرته الإبداعية، لن يتوقف، ولن تمنعه المواضعات الموروثة، عن ابتكار لغته الجديدة المختلفة الخاصة: شكلاً وروحاً. ففي حين لا ينبغي التنازل عن حق الشكل الجديد في الكتابة، ليس من الحكمة التفريط بحق النص في المسّ الشفيف /العميق، بالواقع، الذي من المبالغة الزعم بتفاديه لحظة الكتابة. غير أن شرط الفن الذي يقترحه علينا المبدع هو ما يمنح الشعر حريته الفنية وقدرته الفريدة في سبر هذا الواقع دون الخضوع له أو مجاملته. في الكتابة الأدبية، الشعر خصوصاً، لا معنى لنص دون الذات العميقة فيه، بالمعنى الذي تنداح فيه شخصية الشاعر بحرية، ولكن بجمالية تقنعنا بأنها جديرة بتجاوز مواصفات الشكل المألوف، ويخالف المستقر الثابت. طاقة الشخصية الذاتية للفنان في كتابته، بلغته العالية، هي العنصر الفعال في اكتشاف آفاق شكل التعبير، وليس من الإنسانية التنازل عنها أو التفريط فيها. 10 كنت لا أتوقفُ ولا أطمئنُ لما أنجزُه من مكتشفات في أشكال الخروج عن القوالب وعليها. قبل ذلك، كتبتُ شعراً موزوناً كثيراً، وربما أكثر مما ينبغي. كنتُ مبكراً ممن يشعرون بميلٍ شديدٍ إلى الإيقاع. حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الموسيقا بشكلٍ ما، ولا أزال أشعر بلذةٍ غامضة، تكاد تكون روحية، في الكتابة وزناً، ليس لديّ موقف مسبق في هذا المجال. يبدو لي أن حساسية الإيقاع عندي هي عنصرٌ أساسيٌ، ضمن عناصر أخرى، وهو يمنح النصَّ شيئاً من جمالياته الشعرية، وبالتالي مغايرته للنثر العام. وأعتقد بأن في اللغة العربية، دون الوقوف عند حدود بحور الخليل، طاقةٌ لا متناهيةٌ من الإيقاع، ويمكن للشاعر أن يكتشف هذه الطاقة ويستمتع بجماليتها. 11 إن أساليب الكتابة الأدبية هي أرواح تكتسب طبيعتها من حواس الشخص وطاقته الغامضة في شحذ مخيلة اللغة. وهو ما أعنيه بأن الشعراء كائنات لغوية. أقول ذلك وأحب التأكيد عليه لكي ألفت إلى أهمية الجَهر بحقِّ عدم الغفلة عن العناية باللغة عندما يتعلّق الأمر بالتعبير الأدبي. ليس من الحكمة الزعم بعدم الاكتراث أو التهوين أو لامبالاة الشاعر بلغته، لئلا يبدو منصرفاً عن مضمون أو موضوع النص منشغلاً باللغة. إنني أرى على العكس من ذلك، فإذا لم ينشغل ولم يعتن ولم يسهر الشاعر على لغة تعبيره فبأي شيء يمكن أن ينشغل؟ إن الانشغال الحميم والعشق العميق للغة هما من صميم مهمة الشاعر بالدرجة الأولى، وهما الشرط الذي من شأنه أن يميّز شاعراً عن الآخر. أما المواضيع والمضامين فهي التي لا ينبغي الاكتراث كثيراً بها أو القلق بشأنها، لأنها لا تزال متاحةً على الطريق، وهي تحدث تلقائياً وعفوياً وبفطرة الروح في جسد الشخص والنص، فهي تحدث مثلما يحدث الحلمُ في النوم. تجربة الإنسان هي بمنزلة النسغ في الغصون والدم في الأوردة، من الطبيعي أن يتمثلها النصُّ لحظة الكتابة. بل إنها شيءٌ يتحققُ ولا يمكن تفاديه، مهما زعم الزاعمون. إنه شأن داخلي يحدث في الباطن، غير أن اللغة هي فقط ما يستدعي الاحتفاء والاهتمام والإخلاص والعشق لكي تمتزج بالروح الداخلي للشاعر. 12 لن يكون لدينا قول وأدبي عموماً، وشعري خصوصاً، من غير أن يكون المجاز متألقاً ومتقناً في شكله ومضمونه ومراياه. فالتشبيهات والكنايات والاستعارات هي الأجنحة الكثيرة التي بواسطتها سيحلق المجاز في النص الذي يزعم أدبيته. والذين ينأون عن المجاز فيما يكتبون، سوف يقعون في خذلانٍ شنيعٍ وهم يفرّطون في الشرط الأول للقول الأدبي. ذلك أن البلاغة هي ربيبة اللغة، ومن غير الصقل المستمر المتواصل لطاقة ابتكار المجازات سيتعذر علينا الزعم بأي منجزٍ أدبيّ محتمل. وإلا كيف يجوز لنا الإنجاز الشعري من غير أن نجتاز الطرق الجديدة، الطرق غير السالكة فنسلكها، الغريبة فنألفها، البعيدة فنقاربها، الغائبة فنستحضرها. وإلا كيف نزعم الأدبَ ونحن نتحصّن بالتردد بوهم الرصانة، ونتذرع بالوضوح مفرّطين بالغموض، هذا الغموض الذي يمنح مجازاتنا الجمالَ الآسر الذي يستحيل علينا تفاديه كلما سعينا إلى عبقرية اللغة وتوأمة الشعر مع الحياة والحلم بها. 13 أحب كثيراً اكتشاف اللغة بوصفها أحد أهم عناصر الكتابة الشعرية، سعياً في البحث عن ملامح الفنارات التي تضيء مواقع قلوع السفن التي تملأ البحر باحثة عن موانئها الموعودة. مؤمناً أنها المكوّن الأساسيّ لمسألة الشعرية التي هي من صميم تجربتي الشخصية في الكتابة. 14 دائماً كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحيّ الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. ما يميّز الشاعرَ عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، وقدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الابتكار في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك، حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرّف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكةٍ تعشقه هو بالذات، وأنه حرٌّ في هذه الحضرة لكي يصنع حياتَه معها بلا حدود. اللغة، في الشعر، هي العشقُ الذي كلما منحته أعطاك. 15 بهذا المعنى كنتُ أدخل في مغامرات اقتحام الحدود بين أنواع التعبير من جهة، ومن جهة أخرى أشعر بأن اللغة، إضافة إلى إحساسي بمسؤولية حق الحرية، هي ثروتي الشخصية التي لا تمنعني عنها سلطةٌ ولا يشاركني فيها أحد، إلا القارئ الذي لا أعرفه. من هنا أعتقد أن المتعة التي كانت تمنحني إياها تلك «الشهوة» إذا صح التعبير، تضاعِفُ طاقةَ المخيلة لحظة الكتابة، بحيث لا أكاد أرى في تخوم أشكال التعبير إلا آفاقاً مفتوحة وليست حدوداً. 16 لم تعد مسألة النثر والشعر تشغلني، وليست هي ما يتوقف أمامها النصُّ، عندما يبدأ في التخلّق. بالنسبة لي، هذا الأمر يطرح أسئلة أكثر عمقاً. لذلك فإنني أشعر بالقلق عندما أصادف شاعراً تشي كتابته بعدم الاهتمام، أو اللامبالاة، باللغة فيما يكتب. فيبدو مثل شخص يجتهد في تثبيت أعمدة الكهرباء ومد الأسلاك وتركيب كثير من زجاج القناديل، لكنه لا يكترث بطبيعة التيار الكهربائي الذي يمنح الضوء لكل هذا البناء. اللغة، بوصفها روحاً، هي الأهم في النص كما في الحياة. إنها أجمل الثروات وأخطرها. الشاعر لا يستطيع أن يحقق قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة. 17 أتوقع من الشاعر، فيما يتحرّرُ من قيود القواعد القديمة، أن يقدر على اجتراح قواعدَه المبتكرةَ، الجديدةَ، القائمة على شعرية اللغة، واكتشاف جمالياتها الفنية وعبقريتها الإنسانية. 18 اللغة العربية ليست مجرد حروف في الأبجدية أو كلمات منظومة ومصفوفة ومرتبة أو موزونة فحسب. اللغة العربية، ذلك الروح الشعري الغامض الذي يستعصي على الوصف المباشر، العقلاني، القائم على منطق قياس المادة وفيزياء الدلالات الملموسة. اللغة هي أن تشعر بأن النص قد ولد تواً من عبقريات الجمال الرهيف الذي صقلته تجربة الكتابة العربية وأثثته تجربة الذات الإبداعية. إنها العلاقاتُ اللامرئية والمتوهجة بفعل تجربة العشق الكثيفة، التي لا ينال كنهها إلا شاعرٌ يصوغ تدفقات روحِه، فيما يمزجها بلحظته الذاتية المتناهية العمق والطفولة في آن. 19 الحب والحرية، لن تكون متحققاً في كتابتك دون أن تصدر عن أصغر القوادم في هذين الجناحين، عميقاً في القلب وأعلى كثيراً من السماء. فأنت، برؤيتك الكونية بالحرية والحب، تقدر على تحقيق النقائض لكي تفسد على الحياة استسلامها. خصوصاً إذا تسنى لك الخروج عن درسٍ الامتثال الذي يلهج ويتبرع به سدنة الواقع. هكذا لا أزال أسعى إلى الدرس. * شهادة قدمها الشاعر عن تجربته ضمن «شهادات إبداعية في التجارب البحرينية» التي تنظمها وجود للثقافة والإبداع بالتعاون مع دار فراديس للنشر والتوزيع.
مشاركة :