شهادة الرحالة الأجانب في الريف اللبناني من القرن السابع عشر إلى التاسع عشر

  • 10/19/2013
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

يشكل التراث الريفي أحد أهم عناصر التاريخ الذي يعنى بالعادات والتقاليد والأعراف والاحتفالات وطرق العيش والتفكير والنشاطات الاجتماعية والاقتصادية. وهذه العناصر مجتمعة تشكل جزءاً أساسياً في تاريخ الشعوب، وحافزاً لأبنائها لمعرفة تاريخ أجدادها والتمسك به. كما أنها في الوقت ذاته تعتبر إرثاً مهماً تعب الأسلاف وجهدوا في بنائه. والواجب يقتضي من جميع الباحثين والمفكرين التراثيين الاهتمام بالتاريخ الريفي لأنه ينقل صورة المجتمع الريفي عبر عصور متلاحقة، ويبيّن واقعه الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي، ويبرز المراحل المتعددة التي مرّ بها المجتمع الريفي في تطوّره وصعوده. كما أنّه لا يخفى أنّ التعلق بمآثر الأجداد يعكس اهتمام جيل اليوم بأهمية الأرض والوطن والتاريخ. وهذه كلها تشكّل حافزاً للشعوب للتواصل مع تاريخها والإيمان بمستقبل مجتمعها وأمّتها. ويشكّل العمران والسكن باب اهتمام وبحث شيّق ومفيد تطرّق إليهما العديد من الباحثين والمؤرخين والرحّالة. وما يهمنا في هذا الشأن هو الانطباع الذي كرّسه بعض الرحّالة أو المبعوثين أو المسافرين الأوروبيين الذين تجوّلوا في مناطق بلاد الشام وتركوا لنا فيضاً مهماً من المعلومات المتعلّقة بالمناطق الريفية والمدن. ففي الحواضر الشامية وقائع وأحداث تحتاج إلى من يكشف النقاب عنها، وينقّب في أرجائها الواسعة باحثاً ومدقّقاً وكاشفاً. فهذه البلاد وعبر العصور المختلفة كانت محطّة أنظار البحّاثة والرحّالين، قصدوها دارسين ومنقّبين في آثارها الباقية ومحلّلين عادات شعوبها الماضية، إذ طالما كان الشرق حلم العديد من الرحّالة وجوّاب الآفاق، شدّهم إليه طبيعة أرضه وأهمية موقعه فحرّكت فيهم رغبة البحث والتنقيب للوقوف على الماضي الغابر ودراسة الواقع الحاضر. فهذه البلاد تجمع إلى جانب ثرواتها الطبيعية الهائلة رصيداً فكرياً وحضارياً متميزاً باعتبارها مهبط كل الأديان السماوية، ومنطلقاً لنشر أفكارها وعقائدها في الأرجاء المتعددة من المعمورة. من هنا وجدت بعض الدول نفسها مضطرة للعمل لوضع موطئ قدم لها في هذه الربوع ليصار لها السيطرة عليها والاستفادة من خيراتها من خلاله. وهكذا بتنا نرى ونقرأ عن الرحّالة الأوروبيين الذين حطّوا عصا الترحال في هذه البلاد لدراسة تاريخها المدني والريفي ومعرفة عادات شعوبها والوقوف على الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمناطق الشامية وغيرها. وإذا كان هذا شأن الرحّالة الأجانب في زحفهم إلى الحواضر الشامية وغيرها من الحواضر لدراسة تاريخها الريفي والمدني مع ما استتبع ذلك من معلومات غنيّة حصلوا عليها خلال سنوات التفتيش والتنقيب التي قضوها في هذه المناطق، فإنّ الرحّالة العرب وجدوا أنفسهم أيضاً منساقين إلى تنظيم الكثير من الرحلات تأكيداً لواجب تثبيت روابط الأخوة والصداقة بين أبناء الشام. عندما نتحدّث عن التاريخ الريفي فإنّنا غالباً ما نقصد بهذا الريف القرى والمزارع الواقعة في المناطق الجبليّة والداخليّة، لكنّ هذه النظرة العصرية تخطئ في جعل ريفنا أضيق مما هو عليه، وبخاصة في القرون القليلة الماضية، فالمدن التي لا اختلاف حول كونها مدناً في تلك الفترة صيدا وطرابلس وبيروت وبعلبك. بينما لا توافق في الآراء حول صور وجبيل والبترون. فعلى سبيل المثال يرى التاجر الإيطالي الفرنسي المنشأ «لوران دايفيو» في أواسط القرن السابع عشر أنّ صور مدينة أكواخ وآثار، وجبيل قرية خالية. ويعتبر الراهب المالطي «دومينيغو مغري» من دون غيره من أوائل القرن السابع عشر أنّ البترون هي مدينة. وتبرز شهادات أخرى أنّ صور والبترون قريتان كما هي الحال مع الرحّالة والبحاثة الفرنسي الشهير «فولني» في كتابه الشهير «رحلة إلى مصر» أواخر القرن الثامن عشر. أما زحلة فهي في أواخر القرن الثامن عشر لم تكن سوى قرية واقعة على سفح الجبل، وكذلك دير القمر لم تكن سوى بلدة. ومن الملاحظ أيضاً أنّ محيط المدن المباشر كان ريفياً في معالمه وأصول الحياة فيه. كذلك فإنّ المناطق الجبليّة التي لم تكن تؤهّلها طبيعة أرضها أساساً لتكون ريفيّة استطاعت في معظمها أن تكون كذلك كونها زرعت وأخصبت وأعالت أهلها. ومن العناصر الأساسية التي ساهمت في توسّع الريف نذكر العنصر الأبرز وفق شهادة العديدين: فـ «فولناي» يؤكّد أنّ حقّ الملكية المضمون سمح للفلاحين بالتعاطي مع الأرض بجسارة واطمئنان إلى جهة المحاصيل. أما المبعوث الفرنسي الرسمي البارون «دي بوالكونت» الذي زار البلاد آتياً من طريق سورية بعد «فولناي» بحوالى نصف قرن يرى أنّ وضع الملكيّة غير المعروفة في المناطق المجاورة يدعم ويشجّع على تحمّل العمل الشاق لتعمير الأرض مثل تشييد المدرّجات. أما من حيث الطبيعة والمناظر، فأيضاً يمكن العودة إلى شهادة الرحّالة بخاصّة ما كتبه «فولناي» و «لامارتين» و» جيرارد دي نيرفال» في أواسط القرن التاسع عشر. ففي كتاباتهم وصف دقيق للطبيعة الريفية. أما بخصوص المسالك ووعورتها، فإنّ القنصل الفرنسي «هنري غيز» يهتمّ بوصفها في أواسط القرن التاسع عشر، وهو الذي خبرها خلال سنوات طوال، كما عرّج على الطبيعة ووسائل النقل أي الدواب والسروج غير المريحة، لذا نجد «غيز» ينصح المسافر الأوروبي بحمل سرجه معه. أما في ما يخصّ الماء والهواء والمناخ فقد وقفنـا على شهـادات العديد من الرحّالة، بخاصّة ما كتبوه في القرن السابع عشر وإشـاراتـهم إلى المرض الذي كان يهدّد العديد من السكان بـخاصة مـرض الملاريا. فهناك العديد ممن عانوا هذه الحمّى منهم على سبيل المثال الراهب «ماغري» والرحّالة الفرنسي «جان دي لاروك» في القرن السابع عشر، بعيد وصولهما إلى لبنان، كما أصيب البارون «ألفرد» الفرنسي المنخرط في جيش «إبراهيم دامانياك باشا» المصري بالحمّى التي ظهرت عند دخوله إلى الجبال اللبنانية آتياً من سورية. أما الوباء الذي يهدّد الكثيرين فهو الطاعون، فقد أصيبت بهذا المرض الليدي «آستير ستانهوب» في اللاذقية عام 1813م وفي هذا السياق يبدو أنّ أهالي بشرّي كانوا يخشون أن يحمل إليهم المسافرون الطاعون معهم من بعلبك. أما الأمراض الأخرى السارية فكانت قليلة، فنادراً ما كان يصاب بعضهم بالبرص. أما بخصوص الهواء فإنّ «غيز» يقول: «إنّ الهواء جيّد بعامة في لبنان لكن المكان الوحيد غير الصحي في البلاد هو جوار نهر بيروت حيث بعض أنواع الحمّى. أمّا الشاعر «دي نيرفال» فلاحظ أنّ هواء الجبل منعش. أما الماء وبخاصّة مياه الينابيع في الجبل فهي خفيفة وجيّدة وباردة حتى في الصيف. وربما كان أشهر الآبار والبرك التي زارها الرحّالة الذين أمّوا الجنوب هي برك رأس العين الشهيرة قرب صور. فـ «دارفيو» الذي دوّن مذكراته عن صور يعطي وصفاً مفصّلاً لثلاث من آبار سليمان كما يدعوها، أمّا «فولناي» فيضيف أنّ هناك عدداً من الآبار الصغرى. أمّا بخصوص النبات والحيوان فقد لفتت الخضرة الأوروبيين، فبالنسبة لـ «ماغري» يشمل الجبل سلسلة غابات بالغة الاتساع وأرياف فسيحة الأرجاء. ولقد استرعى انتباهه وهو الآتي من حلب وحماه السهل المنبسط من مدينة طرابلس إلى الجو الكثير النصب حتى يبدو وكأنه الفردوس الأرضي. وفي محيط بيروت أواسط القرن التاسع عشر هناك جنائن لأشجار الفاكهة والجمّيز، وبالأخص حرج الصنوبر الذي يساعد في تنقية هواء المدينة وريفها. ولا بدّ من ذكر بعض الأشجار ذات الأهمية البالغة اقتصادياً مثل الزيتون والكرمة، كما يذكر في هذا الصدد تجفيف التين والصعتر والغار. بالنسبة إلى الحيوان نجد في كتابات الرحّالة والمقيمين أو الزائرين الأوروبيين إشارة إلى عدد من أنواعه: الدابة، الطير والحشرة. وبعضهم الآخر يذكر الحيوانات الضارية كالنمر والضبع والدببة والفهود، فـ «ماغري» يقول إنه سمع صوت الضبع، لكنّه لم يره طبعاً إلى جانب ابن آوى والذئب والثعلب والغزال والماعز والخنزير البري. كما تتكلم شهادات الرحّالة عن حشرات وطيور منها المؤذي اقتصادياً، فـ «فولناي» يذكر الجراد. أما «بوجولا» فتغنّى بالحمام المتمتم على أعلى القمم بين الأشجار الكبيرة. كما نرى النسور فـ «دي لاروك» الذي لم يقل صراحة أنّه رآها، يروي أنّه جمع ريشها في الأرز وحمله معه برَكة إلى جانب أغصان من الأرز.

مشاركة :